‏«home»: لا أحد يُطفئ هذا الجهاز

نُشر في July 29, 2019

Share Button


لكل قصة بداية، ولو لم تنطلق من بدايتها، ويمكن لقصتنا أن تبدأ على هذا النحو.

يجلس ر. أمام اللابتوب مستخدمًا «غوغل مابس». يكبِّر الخريطة على الشاشة ويصغِّرها، يرتفع بها ويهبط فيها، ويتجوَّل في الشوارع. هذه هي المرَّة الأولى التي تتحوَّل المدينة أمام ناظره إلى صورة مسطّحة. يعرف شكل رأس بيروت الناتئ، وخليجه الذي صُرِع فيه التنِّين، لكنَّه لم يدقِّق سابقًا في خريطة المدينة التي ولد فيها. أما الآن، فيكتشف في المدينة تفاصيل غريبة. ينتبه مثلًا أنَّ الناس تُسمي الشوارع بغير أسمائها. هـ. ذكر له الموضوع، وأعلمه أنه سيكتب عنه. لم يأبه ر. وقتها بحديث صديقه، وواصل النظر في المارة الذين كانوا يعبرون الشارع خلفه. كانت لحظة كافية لأن يلمع كل شيء ولأن يبدأ -يبدأ فقط- في فهم أشياء لم تكن تلفت نظره في السابق.

***

رسالة ١

«مرحبا. اسمي إ. نحضِّر لعدد من مجلتنا عن تعريب كلمة «Home»، ونودُّ أن تساهم معنا في هذا العدد الذي سيكون تجربتنا الأولى باللغة العربيَّة. إذا ما وافقتَ على المشاركة، يمكن لنصِّك أن يتَّخذ الشكل الذي تودَّه: كلمة واحدة، صورة، فقرة، نص مُطوَّل، رسم، أو مزيج من كلِّ هذا. بانتظار ردِّك الذي أتمنَّى أن يكون إيجابيًا».

***

وطأة الفائض  والمنعدِم

كيف نجيب عن الأسئلة يا هـ.؟ منذ زمن لم أعد أعرف أن أجيب، وترافق ذلك عندي مع ازدياد الأسئلة، الأمر الذي زاد شعوري أنَّ شيئًا ما لم يعد يتحقَّق ولا يصل لنهايته المفترضة. كنتُ صغيرًا أبحث دائمًا عن الإجابات. أسأل أهلي سؤالًا فيجيبوني عليه، لكنِّي كنتُ -كما معظم الأطفال- أجد إجابتهم تمهِّد لسؤال آخر، فأرمي مجموعة متعاقبة من الأسئلة لا تتوقَّف إلا بنهر أهلي لي، أو بإجابة غير متوقَّعة لا أفهمها كثيرًا، قبل أن أعرف فيما بعد أنَّها محض هراء استُخدِم لإيقافي عن السؤال. 

ثمّ كبرتُ وظلَّ هدفي دائمًا الإجابة عن الأجوبة. تفوَّقتُ في المواد العلميَّة التي لا تحوي إلا إجابات محدَّدة، لكن مع أول حصة أدب عربي، انهدم كل شيء. تعرَّفت على عالم لا يحوي إجابة واحدة على كل سؤال، وكنتُ أستمتع بِلَيِّ التحليل فيه. استمرَّ الأمر على هذا النحو حتى دخلتُ كليَّة الهندسة، وهناك عدتُ إلى عالم من الإجابات الموحَّدة، إذ لا بحثًا علميًا في جامعاتنا هنا. هناك إجابات موحَّدة وعليك أن تحفظها. لا أنفي أنِّي استفدتُ من منهجيَّة التفكير. صرتُ أستخدم «التقنية» لاستنباط إجابات متعارضة للأسئلة نفسها، حتى أن مديري في العمل قال لي ذات يوم: «لِمَ لا تجيب على أسئلتي بشكل مباشر؟». جعلني السؤال أنتبه للطرق الملتوية التي أسلكها لقول أي شيء. 

هل فقدتُ القدرة على الإجابة كما حدث لأهلي ذات يوم؟ ومتى حدث ذلك معهم؟ عندما أصابَتهم الحرب في مقتل؟ عندما دخلوا حربًا وخرجوا منها لينتظروا حربًا أخرى لا تأتي؟ أم أنَّ الأمر مرتبط بالعمر؟ وهل نصبح مثل أهلنا عندما نكبر؟ نفقد الإجابات، أم نعاني من تخمتها؟ أم أنَّ علاقتنا بهذا المكان الذي ولدنا وعشنا فيه لا تتأسَّس إلا بوطأة فائض الأجوبة أو انعدامها المطلق؟

***

العالم والزمن والأسماء

في البار، تركه هـ. يتحدّث، ثمّ رشف من كأسه، واستطرد في موضوع آخر، كعادته عندما يودّ إنهاء الحديث في موضوع أول، أو لمّا لا يملك -ببساطة- إجابة على السؤال. 

سأله هـ.: «هل تعلم أنَّ شارع مصرف لبنان يدعى شارع ميشال شيحا؟ أيُّ  مفارقة هذه؟ أم أنَّهم قصدوا بالفعل تسمية الشارع الذي يحتوي المصرف المركزي للبلد باسم هذه الشخصيَّة؟ هذا مقصود لا؟ رجل الكيان ملاقيًا أسطورة القطاع المصرفي، قطاع الكيان الأول؟ لا؟ والآن، أخبرني. كيف نمشي في شارع كنا نمشي فيه ونسميه باسم آخر؟ ألا يبدو لك الأمر غريبًا؟ أليس أشبه بلحظة الاكتشاف التي تلَت نزول آدم من الجنة وتعرُّفه على مكان جديد؟ وهذا المكان الذي نحن فيه، ما هو؟ أيكون الجحيم أم مكان من عالم آخر؟ هل كان آدم يعيش ما بعد الموت ثمَّ أعيد للحياة؟ هل كان المكانان يتواجدان في الزمن نفسه، والعالم نفسه؟ وهل العالم هو الزمن؟» 

شطح هـ. في أفكاره. كان يقول كل شيء ولا شيء على الإطلاق. لعلَّه شرب كثيرًا، أو كان يقول كلَّ ما يخطر على باله بلا كثير تفكير. 

***

البراز والجامع والوحوش

يفكِّر ر. في حقيقة أنَّ كل أمثلة صديقه مستقاة من القصص الدينية، وتُعيده هذه الملاحظة إلى الثمانية عشر عامًا التي قضاها في هذه المدينة، منها خمسة عشر عامًا طالبًا في مدرسة دينيَّة.

ربَّما ليجيب على سؤال إ.، عليه العودة إلى البداية. 

يذكر المشهد تمامًا. عمره سبع سنوات، يمسك بيد المدرِّسة التي ترافقه. في الملعب، يجد الحمامات وقد طفح منها البراز. ثلاث حمامات تتنافس في القذارة المندلقة فيها وإلى خارجها. البراز على الأرض والجدران. لكن كيف وصل البراز للجدار؟ من يمتلك هذه القدرة على تصويب برازه نحو الحائط؟

الجامع ملاصق للمدرسة. يجتاز بابًا واحدًا ليصل إليه، ثمَّ يجلس في زاوية داخل المكان الفارغ الذي يجوبه الصمت، ويقرأ في الكتاب. يبقى ساعة قبل أن يعود إلى الصف متأخرًا، ويُعلم المدرِّسة  بسبب غيابه. عرف بتكرار المرَّات أن لا أحد يقرِّظه على التأخر بسبب اعتكافه في الجامع، فصار يذهب أكثر.

رغم موقع المدرسة الكائن عند الخط الأخضر الذي فصل بيروت الشرقيَّة عن بيروت الغربية، لم يكن ممكنًا رؤية ما وراء الخط من النوافذ. كانت نوافذ الصفوف مغلقة بأحجار البناء وأكياس الرمل كليًا، لتفادي الرصاص الطائش. وفي مرّة، عاد الأولاد ليجدوا كيس رمل وقد انفلش على الأرض وحجارة واقعة في منتصف القاعة ونثار زجاج. نظروا إلى الأعلى فبانت النافذة وما تكشفه. صعدوا ليروا أكثر، لكنَّ المدرِّسة أبعدَتهم. لم ينضمّ ر. لرفاقه ويتلصَّص. بقي المشهد الذي كشفَته النافذة محجوبًا عنه بالحجارة والأكياس. لم يخسر كثيرًا. فرغمَ تلصُّصهم، لم يعرف التلاميذ ما الذي يحدث وراء الخط في المنطقة التي لم يزوروها، ومضوا يبتدعون حكايات عن الوحوش المختبئة التي يسمعون أصواتها فقط. 

***

الصورة والصوت والموت

عندما أحاول يا هـ. أن أتذكَّر الموت الأول في حياتي تصدمني فكرة أنِّي لا أتذكَّر شيئًا من الحرب إلا الأصوات. كيف تعمل رؤوسنا؟ هل من المعقول أن أقضي عشر سنين في طفولتي وسط حرب أهليَّة ولا أجد في ذاكرتي صورة قتيل واحد؟ هل يمكن أن أغمض عينيَّ فلا أتذكَّر إلا فريال كريم تنهار على المسرح أثناء غنائها، أو خبر جنازة عاصي الرحباني في التلفزيون؟ أهو النسيان أم أنَّني فعلًا لم ألتقِ بالقتلى؟ أيكون أهلنا قد حمونا من صورة الحرب؟ وهل أحسنوا صنعًا بإرسالنا إلى المناطق الهادئة حينها؟ في البداية، قلتُ نعم. لقد كان خيارهم صائبًا. لكنِّي وجدتُ بعدها أنَّ صدمة الحرب تعاظمت عندي، فصار كلُّ قتيل في زمن السلم يعادل عندي ألفًا. في كل مرَّة كنتُ أشهق، كان التلفاز والورق يغرقان بالدم، وتبعَتهما شاشات اللابتوب والهواتف، قبل أن يحلَّ الاكتفاء والاعتياد والعدميَّة مكان الدهشة.

الحرب التي بدأت كحرب صوتيَّة، انتهَت أليفة وحميمة، وصرنا نشتاق لها، لأنَّنا ظلَلنا نقول متحفِّزين: «اليوم الحرب»، و«بكرة الحرب»، و«بعد بكرة الحرب». وعندما طال انتظارنا، ظننَّا أنَّنا تغلّبنا على الخوف، وتخطَّينا المأساة التي أُرغمنا على عيشها، إلى أن صار يتكرَّر ما يعيدنا سنوات بأكملها إلى الوراء، إلى شعورنا القديم. 

في عام ١٩٩٨ مثلًا، خرقـَت اسرائيل جدار الصوت أكثر من مرَّة فوق بيروت بعد منتصف الليل. رجَّت الشرفة المزجَّجة التي كنتُ أنام فيها. نهضتُ بشكل لا إرادي، عند الصوت الأول، ولويتُ كاحلي وأكملتُ الركض نحو بيت الدرج، لأرى الجيران متجمِّعين. مثل الحرب القديمة، أخذنا نحصي الأصوات ومدّتها، والتي كانت خفيفة مقارنةً بالصوت الأول، ثمَّ عدنا إلى أسرَّتنا بعد نصف ساعة. ما إن أغمضتُ عينيَّ من جديد، حتى تكرَّر الصوت، هذه المرَّة أقوى من سابقه، فأعيد مشهد الركض والعودة. أما في المرَّة الثالثة، فبقيتُ في سريري، ورفعتُ وسطاي إلى السماء، حيث إسرائيل، وقلتُ أنِّي سأنام نكايةً، ونمتُ حتى فقدتُ الصوتُ. 

لكنّ الحرب بقيت عندي رغم ذلك. وانتقلت معي إلى النص مثل علقة تمتصُّ دم الخيال، وعدتُ معها إلى الأصوات، لأكتب مقطعًا كاملًا عن شاب يغمض عينيه في الشارع ويسمع كل الأصوات الخفيضة والمتوسطة والعالية ويخلق منها سمفونيَّة مشهديَّة تؤدي إلى دفع أحداث الرواية إلى الأمام. كان ذلك انتقامي الخاص من الحرب: انتقاء أصوات وإقصاء أخرى.

***

العنق والشامة والقطط

عندما يجلس ر. وحيدًا في غرفته في مدينة الأبراج لا يستطيع لا أن يفكِّر في عنق س. الموجودة في بيروت. يذكر أنَّه أحبَّ وجوه حبيباته، يذكر أنه أحبَّ شكل أجسادهم. لكن كيف وصل الأمر به لأن يحبَّ عنقًا؟ بدأ الأمر بملاحظة. شامة واحدة فقط أسفل عنقها جعلت ذاك المكان في الجسد جديدًا عليه كأنَّه لم يعرفه قبلها.

«النبي يوسف كان عندو شاميَّة ع رقبتو»، قال له هـ. فجأة كأنه يقرأ أفكاره. «وكانت هون على الشمال»، أشار شارحًا. نظر إليه ر. ولم يفهم، لكنَّ هـ. أضاف: «ما في حدا حلو ما عندو شاميَّات بجسمو. ويوسف كان حلو. كل الكتب بتقول هيك».

راح ر. يفتِّش عن وصف يوسف، فلم يجد ذكرًا لأي شامة في الكتب التي تصفَّحها. هذه من بدع هـ. المعتادة طبعًا، لكنّ الأمر يحتاج لملاحظة واحدة مغلوطة لتتغيَّر النظرة إلى أشياء كثيرة، وهذه المرَّة، انتهى به الأمر أن انهوَس بعنق س. في كلِّ مرَّة يرى العنق يأتيه الشعور بأنَّه يراها للمرّة الأولى. هل كانت تتغيَّر من لقاء إلى آخر؟ يحضن س. في السرير، ويقول لها إنَّه عائد إلى مدينة الأبراج في الغد، وإنَّه سيترك عنقه – عنقها- في بيروت، وإنَّه يخيَّل له أنَّ عنقها مزورعة هنا له، وأنَّها رباطه للعودة المتكرَّرة إلى هذا المكان. تنظر س. إليه، ولا تردُّ على تصريحه، ويتركان لمواء القطط في الخارج أن يعبِّئ الصمت.

يكمل ر. متحدثًا في السرير:

«بينقال إنو إيام الهدنات ووقف إطلاق النار، وقت ما كانوا يلاقو شي ليقوّصوه، كانوا يروحو يتكُّوا بالبسينات. يصفُّوهن، أو يعلقوهن من إجريهن أو إيديهن، ويقعدوا يقوصوا ويعذبوا فيهن ع رواق. ما بعرف ليش تذكرت هالقصة، لما كنت ماشي من يومين بحيِّ اللجا. خطر ع بالي وطِّي لإتطلَّع تحت سيارة، فلقيت شي خمس  بسينات لابدين، وكلن مشوَّهين بمطارح مختلفة. اللي رايحة عينو، واللي دنبو مقطوش، واللي إيدا ما بعرف شو بها.. بتعرفي شو؟ عندي نظرية. بحسّْ إنو شي نهار البسينات ح ينتقموا من كل اللي صار فيهون، ح ينتقموا من كلِّ العالم هون، وهني اللي ح يحكموا هيدا البلد».

«كس إختك ع فكرة إنت وشاميَّاتـك وبسيناتَك! وْعَ فكرة هاي رقبتي مش رقبتَك. وأنا ما بٌعير رقبتي لحدا قد ما كنت بحبو»، تردُّ س. قبل أن تنهض.

يلحق ر. بها. يقف عند عتبة باب الحمَّام وينظر إليها تستحمُّ تحت الدوش. من مكانه لا يمكنه رؤية الشامة، لكنّه يتخيَّل للحظة أنَّها انزلقت من عنقها ومشت على جسمها هاربةً قبل أن تغيب في بالوعة البانيو.

***

السرطان والكائنات والتشوُّه

عندما التقى هـ. و ر. في البار، اكتشفا خلال حديثهما أنَّهما فقدا ثلاثة أصدقاء كانا معهما في المدرسة بمرض السرطان.  تحدَّث هـ. عن معدَّلات المرض التي زادت في لبنان. قيل إنَّ اسرائيل ترمي في كل حرب من القنابل ما يحافظ على نسبة المصابين ويزيد منها. صمت ر. للحظة ثمَّ وجد نفسه يفكِّر بما حدث بينه وبين س. قبل أن يلتقي بصديقه، فأخبر هـ. عن حلم يقظته. قال إنَّه رأى أناسًا مبقَّعين تمتلئ وجوههم بالشامات يتقدَّمون جماعات في الشوارع، ثم تنتأ الشامات من جلودهم، وتهرب إلى تحت الأرض عبر فتحات المجارير.

أما هـ. فاكتفى بالابتسام، وفتح اللابتوب، وقرَّبه من ر. وطلب منه أن يقرأ:

«في مجارير بيروت، يسبح أكثر من كائن غريب. هل تذكُر صفقة الأسلحة والمواد المشعَّة التي طمرتها الميليشيات المتناحرة خلال ثمانينيات القرن الماضي، بالقرب من مصبَّات المجارير في البحر؟ فكِّر في إمكانية اختلاط المياه المالحة بالمجارير. مدٌّ واحد من البحر كفيل بأن يُدخل بعضاً من هذا الماء المالح المشعِّ إلى الفتحات تحت اليابسة. هناك أيضاً مواد غريبة عجيبة طمرها المقاتلون في اليابسة، فوق العظام واللحم المدمَّى لضحاياهم. كلٌّ طمر عظام أعدائه، وفوقها نفاياته وأسلحته. سياراتنا تمشي فوق أسفلت يحوي أجسادًا وأسلحة ونفايات. هل تتصوَّر مادة مشعَّة، فوق لحم وعظم، ومع ديدان وحشرات قرب منزل لكائنات غير معروفة؟ هل تتخيَّل هذه الكائنات تأكل أو تلمس مواد كهذه؟ إنَّ هذا لا يمكن إلا أن يحدث تشوُّهات وطفرات خَلْقيّة قادمة في جنس الكائنات غير المعروفة هذه. لا تضحك. أنا لا أخترع شيئًا. كل هذه الفرضيات سبق أن كتبها وصوَّرها سينمائيون غيري».

كتب هـ. هذه الفقرة بدايةً لقصة لكنه لم يكملها. شرح لـ ر. أنّه لم يجد شيئًا ليضيفه بعدما لمع في رأسه مشهد الكائنات الجديدة. لو أكمل، كان سيمعن في وصف الكائنات، لكنَّه خاف أن يصف التشوُّه بشكل كريه، ووجد أنَّه من الأفضل ترك هذا الأمر لخيال القارئ. ثمَّ ماذا يعني التشوُّه؟ ولِمَ لا تكون المدينة نفسها مشوَّهة؟ وهل هذه مدينة أصلًا؟ وفي كل الأحوال، من يقرأ قصة عن كائنات غير بشرية مشوَّهة تسبح في بحر بيروت؟

***

الزحام والذاكرة والجثّة

تصله رسالة صوتيَّة على واتس آب من س.:«أيْري! السيَّارات عم تزيد كل يوم بهالمطرح! هيك ح تضلّْ تزيد السيَّارات؟». 

يردُّ عليها ر. بالطلب منها أن تتوقّف عن استخدام العضو الذكري: «ما عندِك منُّو، ما تحكي عن شي ما عندِك ياه. إحكي عن اللي عندك».

<

عندما يظهر ر. في مقابلة، يسألونه عن «الوطن» في كتاباته، فيردُّ بالحديث عن «المكان»، لكنَّ أحدًا من الإعلام لا ينتبه للمصطلحات، ويعودون لسؤاله عن الوطن، ليعود ر.  بدوره لاستخدام عبارة «المكان».

البارحة، فتح ر. قانون المعاني على الانترنت بحثًا عن مصطلحات رديفة يستخدمها في غير أمكنتها. طبع «home»، فأتَته النتائج:

الملجأ. المسكن. الدار. الوطن. البيت. مسقط الرأس. 

ترك ر. البلد وعاد إليه ثلاث مرَّات. في كل مرَّة كان يجيب عن سؤال أصدقائه الأجانب «Are you going home for good؟» بابتسامة. لم يكن قادرًا على الكذب، والابتسامة إجابة ملائمة لأنَّها غير جازمة، رغم أنَّه يعرف كيف ستنتهي عودته إلى هذا البلد.

س. تملك نظرية: ليس «الوطن» إلا المكان الذي تحبُّ فيه، أو تترك فيه الحبَّ قبل أن ترحل. 

ر. يقلب لها النظرية: ليس «المكان» إلا مكان تكره فيه الأشياء.

س. تسأله: وعندما ترحل عنه؟ تترك كرهك فيه؟ أم تأخذه معك؟ أم (وتصمت هنا للحظة، كأنَّها اللحظة التي تسبق الانتصارات السخيفة)، تتعلم أن تحبه؟

ر. لا يرد، ويترك لـ س. شعور بالانتصار. لتبقى علاقة -يفكِّر- على الطرفين أن يتركا في بعضهما مشاعر من الانتصار.

كلما عاد في زيارة قصيرة والتقاه، يجلس هـ. أمامه ويقول له شيئًا عن البلد. هذه المرَّة قال: «جثة. البلد جثة. الناس جثث. الوضع هو كالتالي: جثث تمشي وتعيش داخل جثة. الجثث تقتات من الجثة، والجثة تقتات من الجثث. ألم تقل لي تلك المرَّة أن الطريق الى بيتك مكوَّن من شوارع أسماؤها لموتى؟ حتى التسميات يا رجل جثث!» 

ما هذا الهوس بالجثث عند هـ.؟ يغيب أسبوعين ويعود بفكرة يوغل في الحديث عنها لساعات. الشهر الماضي تحدَّث عن الذاكرة، والآن لا يتكلَّم إلا عن الجثث. يراه لا يستقر في نظرية. يقفز من واحدة لأخرى، وينفي واحدة بأخرى. وكلُّ هذا تراكم لا يفضي إلى شيء! هذا الفعل، أليس جثة أيضًا، أم أنه فقدان ذاكرة؟ وماذا عنه هو؟ لماذا يرجع بعد أن يترك في كلّ مرة؟ لأنه جثة أم لأنه ينسى؟ أيعود من أجل العنق والشَّامة؟ أم لأنَّ هذا المكان لا يصير عنده إلا بالفرار منه والعودة إليه ومن ثمَّ الفرار من جديد؟

يرنّ هاتف ر. رسالة صوتيّة أخرى من س. تقول له فيها إنَّ الجميع يملك أعضاءً ذكرية في هذه المدينة- قبل أن تضيف- وفي هذا البلد، فلا تقُل لي ما أقول وما لا أقول.

«هيدا البلد»، العبارة الأثيرة التي تُتبَع بالنقِّ والشتيمة.

‏«I’m going home for good»، يعيد ر. الجملة في رأسه.

‏«for good؟»، يسأل نفسه كما يسأله أصحابه الأجانب.

«رح آكل خرا بالملعقة»، يجزم.

***

خطاب الانتحاري الأخير

عزيزي ر. لم تمضِ ساعات قبل أن تتناقل الألسن أساطير مدينيَّة عن الانتحاري الذي دخل الضاحية الجنوبية لبيروت وفجَّر نفسه وسط الجموع. هناك من ذهب إلى حد القول إنَّ الانتحاري وقف في منتصف الشارع وألقى خطابًا قبل أن يضغط على الزر. القصة طبعًا لا تصدق، إذ كيف يمكن أن ينتظر أحد ما انتحاريًا لينهي إلقاء خطابه الأخير من دون أن يعترضه أو يطلق النار عليه؟ لكن مع افتراض أنَّ ذلك حدث بالفعل، لو لم يحدث، من أسأل لأحصل على هذه القصة؟ ماذا قال الانتحاري قبل أن يقتل نفسه ويقتل معه الناس؟ ومن أين يمكن الحصول على خطابه، أو على الأقل على مضمونه؟ ألا يمكن أن يكون قد قال شيئًا شديد الأهميَّة قبل أن يكبس على الزر؟

***

الشاطئ  والطائرات والمسلّة

يقول لي أهلي يا ر. إنَّهم كانوا يأتون إلى هذا الشاطئ الرملي. تجلس النسوة ليحضّرنَ المفتقة، ويلعب الأطفال مع آبائهم بالطائرات الورقيَّة الملونة. 

هل يمكن لك أن تتخيَّل المشهد من الأعلى: رمل أبيض، وطائرات ملونة في السماء، وتجمعات لنسوة حول قدور تشتعل تحتها النار؟ 

والآن، عُد إلى الحاضر وانظُر إلى المكان نفسه، ما الذي ستراه؟

في أوائل الألفيّة، خرجت سيدة صبيحة يوم في إحدى شرفات البنايات الفارهة التي تطل على شاطئ الرملة البيضا، ونظرَت، فرأت شبابًا عراة الصدر يركضون على الرمل وباعة ترمس وذرة وكعك. قرفت السيدة واتَّصلت بمعارفها في الدولة وبلَّغت عن قرفها. جاءت الدولة بقدِّها وقديدها قرفانة، وأُغلِق مدخل المسبح الشعبي ليوقفوا الناس عن القدوم. لكنّ الأمر لم يدم إلا أيامًا. اعتصم شباب، وكتب شباب آخرون، وفي النهاية لم تُحلَّ المسألة إلا من داخل الدولة . الدولة تحادثت فيما بينها وقرَّرت: «لا عربات ترمس وفول وكعك هنا. الناس فقط». وهذه تسوية معتادة في هذا البلد، ونصف حل معهود يقضي بأن لا يحظى الجميع بكل شيء، فتبقى المتعة ناقصةً ومعها القرف.

متى بدأت هذه التغيُّرات؟ خلال الحرب أو بعدها؟ قبل إفراغ الوسط أو بعده؟ قبل هدم المباني الأثريَّة أم بعدها؟ هل تغيَّر الناس المقيمون؟ أم هم الوافدون إلى المدينة؟ هل تغيَّرت العادات؟ هل تغيَّر الزمن؟ ما الذي حدث؟ أعلم أننا نختلف في توصيف هذا الأمر. ستقول لي إنَّ هذا التحليل ممل وممجوج، وإنَّ وسطًا سلطويًّا مغرقًا في النقمة السياسية يستخدمه كمقاربة وحيدة لكل ما حدث في السنين القليلة الماضية، وإنَّ الدولاب دوَّار في هذا البلد، والقوة تُتناقل كل خمسة عشر عامًا عندما يتنطح أحد ووراءه جماعته (أو جماعة وأمامها أو وراءها أحد) لتغيير موازين القوى. أنا أفهم وجهة نظرك. لكنَّها -أعذرني- فعلًا غير مهمة! فالمهم هو ما تراه الآن وهنا، وكيف تتصاعد أمام أعيننا، يومًا إثر يوم، الأبراج في هذه المدينة المكدَّسة.

هل تتذكّر المسلَّة التي أنشأووها في التسعينات؟ ما زالت صامدة في مكانها. لقد أرادوا القول لكل من يدخل بيروت من مدخلها الجنوبي إنَّهم إن لم يكونوا معهم فمصيرهم هو هذا الخازوق. مرَّت سنوات عشر، وباتت بيروت ملأى بالخوازيق الحديثة وبقي الخازوق القديم الملبَّس بلاطًا أشبه ببلاط الحمامات الرخيصة، ويبدو أنَّه سيبقى هناك إلى الأبد شاهدًا على أول خازوق أسَّس لظهور مجموعة من المعماريين المُحدثي الثروات المفتقدين للخيال. هذا افتراء؟ هذا استخدام سياسي؟ هذا خلط بين رؤيتين؟ هذا تبسيط؟ كل هذا ممكن، تمامًا مثلما تفعل أنت.  

ليلة البارحة، وبعدما أنهينا حديثنا على الهاتف يا ر.، رأيتُ في نومي أنِّي طائرة فوق بيروت. حططتُ فوق برج المرّ، هذا البرج الشبح، العظمة العارية المنتصبة وسط بيروت منذ الأزل، والذي تزداد الشكوك في وجوده كلما ارتفعَت الأبراج من حوله وبقي هو على حاله مهجورًا يأكله الزمن. من هناك، من الطابق العشرين في البرج، رأيتُ البحر، فقرّرتُ أن أذهب إليه. نزلتُ الأدراج، فاستغرقتُ وقت طويل قبل أن أصل إلى الشارع، وهناك مشيتُ ثم هرولتُ ثمّ ركضتُ. عدوتُ بين البنايات المكدَّسة متَّجهةً غربًا، لكنِّي لم أجد البحر، بل وجدتُ مكانه سورًا من الخوازيق المتلاصقة تحجبه عنِّي. صحوتُ مرعوبة. بالنسبة لي، البحر في هذه المدينة المكدَّسة هو اعتذار عن أشياء كثيرة فيها وفينا، ويرعبني أن أخسر حتى هذا الاعتذار، فلا أعود قادرة على الوصول إليه.

أين ذهب البحر في حلمي يا ر.؟

***

اكتُب قصة حبّ

«ينبغي أن تحتوي قصتكَ على الحب»، قال لي ناشري يا ر. أجبتُه أنَّ قصصي مليئة بالحب. فردَّ مباشرةً أنَّ ما أكتبه ليس له علاقة بالحبِّ الذي يتحدَّث عنه، وقال إنِّي أكتب روايات ميلانكوليَّة تثير الشفقة، ولا أحد الآن يملك الكثير من الوقت ليضيعه في الشفقة على كاتب ما وكتاباته. 

حارجتُه، ورددتُ أنَّ الميلانكوليا نوع من الحب، وفكرتُ بـكَ يا ر. و بقصَّتك مع س. نظر الناشر إليَّ تلك النظرة الشزرة وطلب مني بوضوح: «اكتُب قصة تمثل هذا المجتمع، هذا الوطن، هذا المكان، سمِّه ما شئت ولا تتفذلك علي ولا على قرائك. يا أخي لماذا لا تكتب للقراء العاديين؟ اكتُب لهؤلاء. اكتُب قصة حب. قصة حب بلا فذلكة. يا رجل، فلنكن واضحين، من يقرأ الروايات العربيًّة هم النساء اللواتي يعانين من الفراغ العاطفي، فاقفِز واملأ هذا الفراغ يا رجل! املأه شعرًا ونثرًا وما شئت، املأه خراءً. املأه بأي شيء، لكن املأه ولا تبقَ في الزاوية تكتب لعشرين شخصًا يثيرون الشفقة!»

خرجتُ من عنده يا ر. وقد فقدتُ القدرة على الكلام. هل تذكر المدرسة التي كنَّا فيها؟ هل تذكُر حماماتها التي يطفح البراز خارجها. كأنِّي عدتُ إلى هناك في لحظة. خطر لي يا ر. أن أتبرَّز في وجهه مثلما كنتُ أتفنَّن بالتبرُّز على جدران تلك الحمَّامات!

***

سرنمة

أنهيتُ للتو يا هـ. قراءة ما أرسلتُه لي، وهذه نظريتي لك. كل شخصيَّاتك نائمة. كلها تتحرك ابتداء من النوم. تصحو وتتحرك، فتبدأ القصة. لكنْ هل هو صحو فعلي؟ أقول متأكدًا إنَّه صحو غير فعلي وهو أقرب لفعل السرنمة. انسَ ما قلته لي  في جلساتنا السابقة عن الذاكرة والجثة وكل هذا الهراء. شخصياتك نائمة، والنوم هنا ليس شكلًا من أشكال الموت، كما يقال. النوم هنا هو نوع من التبدُّد والهباء. لكنّه تبدُّد غير نهائي وغير محسوم. هو تبدُّد حاضر، لا غائب ولا راحل. كيف أشرح لك. كأنَّ الأمر أشبه بجزيئات تتبعثر، لكنَّ تبعثرها ليس نهايتها، لأنَّها ستجتمع ثانيًة وتتشكل، ومن ثمَّ ستتبعثر من جديد. لكن انتبِه! لا في التبعثر دهشة، ولا في التجمِّع انجازٌ مفاجئ. إنَّها  فوضى فحسب. فوضى محسوبة تقترب وتبتعد عن خط الفلتان، فتتجاوزه أحيانًا، وتنحو مبتعدةً عنه أحيانًا أخرى. ولا هروب من مثل هذه الفوضى، صدِّقني. يريدون دولة؟ فليعبروا إليها. لن ينشؤوا إلا دولةً على نسقهم، وسنحيا معهم بالتجاور، فذاك هو المعيش الذي نختبره: زائل وموازٍ، من قال إنَّ التوازي نوع من الاستقلال؟ هذا محض هراء. لا يُعرَّف التوازي إلا بالتجاور. نحن مسرنمون يا ر. نحن نائمون داخل النوم، ولا نودُّ الاستيقاظ، واذا ما استيقظنا استيقظنا داخل حلم، داخل حلم، داخل حلم، فبقينا نائمين. تمامًا مثل خوازميَّة ألَّفها مبرمج وترك فيها خطأً، فصارَت تدور في دوائر ولم يعد ممكنًا إيقافها إلا بإطفاء الجهاز، لكن لا أحد يُطفئ الجهاز يا هـ. لا أحد يُطفئ الجهاز.

***

إجابة ١

لكل قصة نهاية، ولو لم تكن نهاية، ويمكن لقصتنا أن تنتهي بهذه الطريقة.

يومض المؤشر أمامه منتظرًا منه أن يرد. تقترب أصابع ر. من لوحة المفاتيح، ويبدأ الكتابة.

«عزيزي إ.

أجدني مضطرًا لأسألك مثل هذا السؤال، لكنَّه ضروري لمواصلة العمل على هذا المشروع. هل يمكن الإجابة بأكثر من إجابة تنفي كل واحدة فيها الأخرى أو تبحث في أماكن  غير متقاطعة؟ والأهمُّ، هل لي أن أضمِّن القصة إهداءً لثلاثة أشخاص عبر ذكر الأحرف الأولى من أسمائهم؟ أم أنَّك تريد إجابة مباشرة فحسب؟ أجد أنَّ الإجابة على سؤالك، يجب أن تمرَّ بأشخاص حميمين نعرفهم. إذ لا إجابات، ولو مؤقتة، من دون هؤلاء الأشخاص، لأنهم ببساطة يجيبون على كلّ أسئلتنا، ولم لو نسألهم ولو لم يجيبونا، وقد يصيرون هم الإجابة، وربَّما هذا هو الردُّ على سؤالك اللغوي، على الأقل مؤقتًا».

  • نُشرت في مجلة “the outpost”، في عددها الوحيد بالعربية