قوابس التلفزيونات
نُشر في January 20, 2010
«شعرتُ بك هنا، وفهمت إنك هنا. أنت أطلعتَني على سرِّك: أنظرْ دائماً للعالم كأنك تراه لأول مرّة».
من «أوسكار والسيدة الوردية»
كنت أقف عند «الكاونتر»، عندما تطوّعت ممرضة لتسألني عن وجهتي. شرحتُ لها أني أبحث عن الولد الذي أعلنوا في الراديو عن حاجته للدم. أجابت إن قسم التبرع يقع في الطابق الأسفل. قلت مصراً إني أريد أن أرى أولاً الولد. نظرت إليّ، غير فاهمة. صمتت للحظة، ثم أشارت، وهي تضمّ شفتيها، إلى الغرفة المواجهة. كان الباب موارباً. تقدمت ناحية الغرفة وقبل أن أدخل، تراجعتُ، ووقفتُ عند الباب من دون أن أفتحه أكثر، ونظرْت.
استطعتُ رؤية ولد متكوم في الفراش في لباس المرضى، يدير ظهره لمدخل الغرفة وينظر باتجاه النافذة. حدستُ أنه ينظر إلى ذاك الاتجاه من الطريقة التي كان يرفع بها عنقه عن فراشه، ومن استدارة وجهه.
وقفتُ عند العتبة بلا أدنى حركة. اقترب مني رجل تنظيفات بعصا ممسحته. وبدأ الكلام من دون أن أطلب منه ذلك. بدا بحديثه كشخصية هاربة من رواية لموراكامي، خاصةً إحدى رواياته التي كتبها قبل 1996. روى الرجل لي قصة الولد، وظلّ أثناء ذلك متحكماً بعصا الممسحة، محركاً إياها برتابة إلى اليمين واليسار:
«يسكن الولد هذه الغرفة منذ شهور. خرج ذات صباح إلى قاعة المستشفى، وأخذ يرفع كل قوابس التلفزيونات من الجدران، على التوالي. ما كان من المرضى الآخرين إلا أن نظروا إليه مستهجنين. كان قد أطفأ مباراة الليلة ونشرة البارحة، وحلقة المسلسل التركي المعادة، والأغنية المصوّرة الصامتة، والبرنامج الفني الفاضح، والصياح المسمّى سياسة. أخرج كل القوابس وتوقف للحظة محدّقاً في عيون الجميع. أراد أن يقول شيئاً، لكنه لم يفعل. تنهد فقط في زاويته، وعاد إلى غرفته تحت نظرات المرضى والممرضات المتوعدة.
يوماً بعد يوم، اعتزل الجميع. صار ينزوي بنفسه أمام شباك غرفته الوحيد كل ظهيرة، يطعم ما تبقى من رغيف الغداء للعصافير الفزعة.
بات أصلعاً من أثر العلاج الكيماوي، هذا فضلاً عن أمراضه الخَلْقية الأخرى التي يصعب حصرها. في صبيحة يوم، نظر في المرآة ولاحظ كم تضخمَّ رأسه بلا شعر، أو ربما خُيِّل إليه ذلك. يخيَّل له الكثير من الأشياء هذه الأيام. الكثير من الأمور تتعاظم حوله من لا شيء ومعها تكثر مشاعره المتطرّفة.
تفاصيل مرضه صعبة، ومعرفتها ليست بذات أهمية تذكر. معروف فقط أنه سيموت، وأنه سيتعلم الكثير قبل أن يموت، وأنه سيكتب إلى ربه رسائل عدة، سينعته فيها بصفات غير لائقة اجتماعياً.
يمكن تعديل قصة الولد، باستعارة حبكة مماثلة من رواية «أوسكار والسيدة الوردية» مثلاً لإيريك إيمانويل شميت، كأن نروي قصة ممرضته المسنة التي تقول إنها كانت في شبابها تطرح أرضاً كل من ينافسنَها من الملاكِمات، أو نقصّ حكاية غرفة المقشات التي يختبئ فيها الولد أوسكار بعيداً عن أهله، كلما زاروه. هم يزورونه دائماً، ولكنه يختفي. ينتظرونه قليلاً ثم يرحلون. وتتضاءل مدة انتظارهم بتتالي زياراتهم حتى يختفون هم بدورهم، ويستلذّ هو بوحدته.
وقد لا يتسنى للولد أن يحبَّ فتاة من عمره. قد يفني أيامه الباقية في العدّ والانتظار. وربما يكتب يوميات سخيفة يشرح فيها كل شيء لمن سيقرأها من بعده، أو يستدعيه مقدم برنامج سياسي في حلقة اجتماعية خاصة فيعرضه أمام الجماهير في التلفزيون، وينظِّر أنه مختلف أو أنه يصارع الحياة القاسية، ويشجعه، فيصفق له الجمهور الذي دُفِع له ليأتي إلى هذا الاستديو ويشجع حالات كحالاته، ويضحك في خلفية المشهد.
كل ذلك قد يحصل لاحقاً. وربما يبقى الولد، بانتظار ذلك كله، جالساً أمام الشباك، ينظر إلى بحر بيروت الذي غزته الأكياس البلاستيكية الوسخة. لا يرى من غرفته هذه التفاصيل، لكنه يتخيلها. يشم رائحة رذاذ البحر، ويركّز في صوت سرب النوارس الحائم فوق الصخور، وفي بقايا أنغام أغنية الحب المصرية المنبعثة من فيلم بهتت ألوانه في تلفزيونٍ موضوع على رف خشبي في دكان سمانة قريب، أو في كوبيْ نيسكافيه رديئيْ المذاق يحملانهما حبيبان، أو حتى في مشهد بعيد لشاب أرعن يخلع ملابسه ويغطس قرب الصخرة على مرأى من فتيات مارّات.
ثم يغمض عينيه حتى يرى الأكياس البلاستيكية أثقلها وسخ السطح، فغرقت بعيداً في عمق اليمِّ بعيداً حتى عن ناظريْ خياله.
يحاول الولد، قبل موته، في عزلته أمام الشباك، أن يتعرَّف على العالم؛ وينتظر أن ينجح قبل أن يلم أغراضه ويذهب بعيداً، ممعناً في عزلةٍ أخيرةٍ ليس بعدها شيء. ينتظر الولد تتمة حكايته، فيما يحاول رفاق له في عمره أن لا يفكروا في النهايات. ينتظر الولد نهاية انتظاره.
ينتظر الولد أمام الشباك. ينتظر الولد أمام الشباك. ينتظر الولـ…».
عندما نظرتُ إلى يميني، لم أجد عامل التنظيفات، وفكرتُ أني ألفتُ قصة الولد في دماغي. لا يمكن لعامل تنظيفات أن يستشهد بإيريك إيمانويل شميت. لِمَ غير ممكن؟ لأنه عامل تنظيف؟ ألا يكون قرأ الكتاب مساءً في غرفته الضيقة الواقعة في مكان ما من هذه العاصمة؟
هل كان العامل هناك فعلاً؟
لا أدري. أثق – على الأقل – أنّ العامل لم يروِ القصة بهذه الطريقة، وأني أنا من أعدت كتابة الحكاية بأكملها. أما تفصيل حدوث الحكاية من عدم حدوثها، فهو أمر ثانوي، ولن يفيد بشيء.
نُشِرَ في شباب السفير في 20 كانون الثاني 2010