كنّـا صغـاراً نؤمـن بالسمـاء
نُشر في November 18, 2009
خبر الكتروني عاجل فقد طزاجته: إملأوا العريضة التالية لحماية المباني والشوارع التراثية في شارع الجميزة.
«حافظ على الخيال»، قال له العجوز. حفر وجهه تضاريس جلدية وهو يؤكد طلــبه. الذاكرة الطفولية؟ تعرفهــا؟ ســأله، ثمَّ أردف: حافِظ عليها أيضاً. حافِظْ على تلك الأيــام. يوم كنتَ تقبض على حفنـة الريح وتعيد إطلاقـها وتـجزم أنها ستصل قريباً إلى منطقة مليئة بركام من السيارات المهشــّمة، تماماً كالفــيلم الأميركي. كنتَ محقّاً في حدسك. السيارات تمـوت، كما البشر. تصاب بالعجز أو يتجعلك حـديدها ببشاعة لا توصف. تموت جنب الشوارع. تحظى بزحمات سير قريبة أشبه بمآتم متلصصة. لم تخطئ ذاكرتك الطفولية. ففي صحراء عربيــة قريبة تُشجَّر قسراً، مكانٌ ما تُدفن فــيه السيارات المهشمة فوق سطح الأرض، على الرمل وخارج المطارات، وعند مداخل المدن، تــحت أشعة الشمس. يحفّ الرملُ حديدَها، وتموت بقاياها ببطءٍ عنيف.
خذ ما شئت من الحزن أيضاً. أملك منه أطناناً. يعظم بمرور الوقت. بالانتظار. أملك منه القدر الكافي لأتوقف عن الشعور بالأمل والرهبة والخوف. تسألني ما الرهبة؟ بعضُ خوف. تماماً كالكف المغلقة المملوءة أزهاراً، التي تفتــح لحـبيب في لحظة وجدانية تقبع في خيالاتنا. نحلم بها ولا تحصل. لكن الكف ستفتح، وستظهر بعض ورود ممعوسة متعرّقة. في الكف بعض ورود الدنيا. ليلك متعرّق.
لم يكن ما سبق إسقاطاً. تجنب الترميز الفج، لكن إشطح أكثر نحو الاستلاب. الحياة كمشة تغريبات. تتذكَّر تلك اللحظة التي شئت فيها أن يتحرك مثلاً فالق اليمّونة على حين غرّة، فيتصدع البناء، يهوي الطابق بك وتبلعك شقوق الأرض. تلك اللحظة التي عاجل فيها لسانُك من جلس أمامك بجملة لم تردها أن تبدوَ كما بدَت لحظتها. لكن سياق الحديث جعل الجملة وقحة، وصرتَ تباعاً أوقح. لحظتها اقترفْتَ الإستلاب ولم تدرِ، لا أنت ولا من جلس أمامك.
حافِظ على الخيال، وتبدَّل. تبدَّل ولا تَخَفْ. وحدها المشاعر لا تتبدل. هيَ هيَ منــذ الأزل. عرَّفناها أكثر، صحيح. حلـَّلناها أكثر، صحيح. أصبنا وأخطأنا، صحيح. لكنها لم تتغير. بقيَت كما هي. نحن تبدّلنا. أصبحَتْ أنانا أكثر وقاحة، تعاظمَتْ تأكيداتنا لأنفسنا بأننا نعرف. هل نعرف حقاً؟ هل نعرف؟
«حافظ على الخيال»، قال. لكنه اختفى. خرج من نفس الخيال وعاد إليه. اختفى في شارع استحضره فقط لهذه الجملة. شارع عتيق بدا للحظة شبيهاً بأحياء الجميزة التي تهجم عليها الأبنية من خارج المكان. وقبل أن تخفت صورته، ترك أغنية لداليدا تتردد وراءه: تلك كانت أيام الزهور.. كنا صغاراً نؤمن بالسماء. للاّ للاّ لا لا للاّ للاّ لا لا . . كنا صغاراً نؤمن بالسماء!
نُشِرَ في شباب السفير في 11 تشرين الثاني 2009