حرامي الحكي

نُشر في September 30, 2009

Share Button

2009 09 30

(1) طاولة الكوي/ Rewind

اليائسة الأربعينية في الداخل تستمع إلى فيروز: «فيا قلبُ كم شرَّدَتك رياح». على جانبها طاولة كيّ نـُصِبَت منذ ساعات ونُسِيَتْ في مكانها، وعلى الطاولة قميص قطني مخطَّط غُسِل أكثر من مرة حتى وَلدَ الكراتِ القطنيةَ الصغيرة على ياقته.

اليائسة الأربعينية ـ في ثلاثينيّاتها ـ وضَّبَتْ سجادة عجمية للسبات الصيفي. فردَتْها ورمت كرات «النفتلين» البيضاء. أتَتْ صغيرَتها وأكلَت حبّة. بلعَتْها ولم تستجب لأمر البَصْق. أشربَتْها أمها حليباً ساخناً وأخبرَتْها قصة العفريت المنحوس ثم غنَّتْ لها حتى نامَتْ.

اليائسة الأربعينية ـ في عشرينيّاتها ـ تقترب منه. هو مصنوع من مجموعة خيوط، ككرة جدتِها الصوفية («هل ماتت جدَّتكِ؟» يسألها في عشرينيّاتها فلا تجيبه). «لا تشدي هذا الخيط من منتصفه فهو خيط الوجدان»، يأمرها. «الوجدان لا يُمسك من المنتصَف. لا تمسكيه من الطرف!» يصرخ. «لا تشديه». هو «ينسِّل». هو يتهاوى. تستطيع الآن اليائسة الأربعينية أن تغزل كنزة جدَّتها الصوفيّة («ماتت»، تعلن ـ في ثلاثينيّاتها).

اليائسة الأربعينيّة لن تبلغ الخمسين، وطاولة الكي ـ على غير عادة ـ لا تنتظر أحداً ليعيدها للزاوية.

(2) عابرة (للطوائف)

«سَكَّر بابي بشوفك ماشي عالطريق، بفكِّر إنزل أركض خلفك عالطريق، وتشتّي علي وما تشوفك عينيّ وأنا أركض وراك مدِّلَّك إيديّ. واندَهْلـَك انطرني حبيبي وما.. ما تسمع» ـ جوزف حرب.

أو: ملأ مَطَرُ اللحظةِ العينين فخلق غشاوتَيْ السمع والبصر.

(3) أوْصَدْتُ عليَّ السماء

«وحدن» لطلال حيدر. أقفلوا علي باب الغــابة وتركــوني هـناك. بقيتُ وحيداً مأزوماً في ستاتيكو غريب. قالوا إنها النهاية. نظرت فجأة في الغابة حــولي. رأيتهم يوصدون الباب الحديدي ولم يكن قد أكله الصدأ بعد. عَدَوْتُ أجمع الزمن الهــارب على جدران مَرَّتْ عليها الدماء وجفَّت. أقفلوا عليَّ الستاتيــكو وقالوا لي: ابقَ حــيث أنت. ثــم أتوا مرات يحاولون فتح البـاب وتعاظمَتْ نشــوتي. سـأهرب من الغابة الموصـدة، قرَّرْت. لكنهم تراجعوا في لحظة أخيرة. قالوا إنهم أعطوا الفتنة حبــوب منومات. خارج الغابة، كان الحمام يطير أسراباً فوق البيت الذي حسبته آمناً. شخصْتُ بنظري إلى السماء فاكتأبت.

بدأت أقرأ ما تركوه لي من كتب. اعتــدْتُ الستاتيكو حتى لم أعد ألحظ العشب الهارب على زوايا كرسيّ، ولم يعد يعني لي بياض الثلج شيئاً. افــتقدْتُ فقط الحمام الغائب ـ شتاءً ـ في السمــاء غير الموصَدة. ومرة أخــرى، فتحوا الباب ونسوا أن يغــلقوه. تسللت إلى تخوم الغابة، حيث البيت الآمــن. وجــدتُ صاحــبي وقد تزوج وَرَبّى كرشــاً وأطــفالاً يصرخ فيهم وزوجة تشتم له نهاراً وتمارس معه الجنس ليلاً (فقط ليلِدوا طفلهم القادم، ومن غير لذّة). وجدْتُه مأخوذاً بالعــلبة الالكتــرونية أمامه. يشتم من وما ظهر فيـها ويرمي ما فــاض من طــعامٍ في فمه. (تعلَّم طفــله الشــتيمة الأولى الآن وقد ضحك صديقي لسماعها بهستيرية). ظَلَلْتُ أتســرَّب من غابتي لســنوات وأنا أشاهد طفله ينمو. ثم ضربه صديقي للشتيمة السابقة ذاتها بعد ثلاث ســنوات. لم تعــد الشتيمة مضحكة. دخل الصبي زمن العيب وعليه أن يتوقف عن التفوه بالشتائم التي تعلمها من أبيه. شاهدتُ كل ذلك والعلبة الالكترونية لا تزال مضاءة بكل ما فيها من أشخاص.

أطفأت العلبة الالكترونية، فأعاد صديقي إضاءتها. أطفأت العلبة الالكترونية، فأعاد صديقي إضاءتها. أطفأت العلبة الالكترونية، فأعاد صديقي إضاءتها.

عدْتُ إلى كرسيي في «غابة» الستاتيكو. فَقَدَ دَمُ الجدران رائحته وبات لوناً لا أكثر. صادقْتُ الذئاب (الباقية طبعاً) حتى باتت آكلة عشب. لم يَعُد ما حولي، «غابة». بدأْتُ التفتيش عن اسم ثانٍ لها، ثم سرقت أسراب الحمام وأوصدْتُ عليها سمائي. (لن أدلكم كيف) جمعْتُ ما بقي من الزهر وانتشيْتُ صارخاً مضيفاً إلى ما حولي من صَخَبٍ هادئ: «يعيش الستاتيكو».

(4) حرامي الحكي

أنا «فهلوي». أسرق النصوص الناقصة. أصلح ما يمكن إصلاحه. أرمم الجمال الناقص. أنا حرامي حكي.

نُشِر في شباب السفير في 30 أيلول 2009