وداعاً أيها العالم العزيز
نُشر في June 17, 2009
تخطّ يدكَ المرتجفة على ظهر الصورة. ينادونَكَ من الخارج. تجيبهم أنكَ آتٍ. تخرج من غرفتكَ. ترَبـِّت على ظهر قطتكَ البيضاء للمرة الأخيرة، فتمتنع عن الهَرْهَرْة كأنها تعاقبك. تنظر إلى كروانِكَ الذي يعاني الاكتئاب المزمن منذ موت أنثاه. تصفِّر له فلا يجيبك. تنزل درجات البيت القليلة. تحمل ابن البوّاب على كتفيكَ كإعلان حليب “نيدو”، وتعدُه بطيارة تطير بآلة تحكم عن بعد. لا يفهم الصبي الجزء المتعلّق بالتحكم عن بعد. يريد طيارة فحسب. بسيطٌ هو في أحلامه لأنه لم يعرف بعد. ليتَه يبقى بسيطاً. ليته لا يعرف.
تنزِله عن كتفيكَ وتدخل سيارتكَ راكباً لا سائقاً منذ مدة طويلة. تلوّح لهُ من وراء زجاج النافذة وتنطلق السيارة باتجاه الطريق السريع. تسمع زيادَكَ للمرة الأخيرة، وللمرة الأولى لا تضحك. لا تعني لكَ “آكّو” و”مصاري” أي شيء يذكر. هي – لو هنا – كانت ستعديكَ ضحكاً. مع كل ضحكة تنزوي إلى الأسفل من غير أن تشعر. تضحك وتنزوي حتى تجد نفسها متقوقعةً في أسفل المقعد الأمامي. أمّا أنتَ الآن فلا تضحك. أنت تختنق بدافع من كتمان شخصيّ.
زحام بيروت اختفى كأعجوبة. كأنّ المدينة تسهّل الأمور لك. تقول لكَ إذهب ولا تعد. إذهب ولا تشعر بالذنب. قلتَ أنك بدأْتَ تشعر بنقصٍ في الوطنية يكاد يكون فادحاً. لا تعاقـِب باطنَك. ما الوطنية يا عزيزي؟
إذهب ولا تندم. لكن احتفظ بنقص الوطنية لنفسك. لا تصدِّره. لا تهبِّط عزائم رفاقك. ابتسِم لهم. فبعضهم سيصدِّق طبعاً تحت وطأة اللحظة، أي لحظة. وَدِّعهم وابتسِم. أنتَ وحدكَ تعلَم أنّ الوطنية إن ازدادت تحولت خانقة. تتأكد الآن لـِمَ تحاذر أن تشدَّ ربطة العنق في اللقاءات الرسميّة وتؤثر أن ترخيها. رغم ذلك، يأبى العرق إلاّ أن ينبع من هناك دوناً عن سائر مسام الجلد.
تقطع السيارة المسافة الأخيرة. تسمع الموجز الأخير. تشاهد الشحاذ الأخير، “الصّـَفـَّة” الأعجوبيّة الأخيرة بين سيارتين، الرانج “المـُلَبـْنَن” الأخير صاعداً على الرصيف القاطع للاتجاهين هارباً من زحمة سير. ترى الكثير من المازوت، ولا تشمه (فقد اعتدتَه). تلحظ الكثير من محلات بيع مستلزمات السيليولير في هذرٍِ لا تجده حتى في السويد، مصنِّعة النوكيا. تشمّ فرن المناقيش الأخير.
“وداعاً أيها العالم العزيز” على ظهر الصورة وهيَ في المقدمة تضحك بكريما الكاتوه على أنفها. أما أنتَ فَلَسْتَ هناك كما الآخرون.
أنت التقطْتَها وأرَّخْتَها: “يوما ما في شهر ما من عام 2005”. أضَفْتَ عبارة “العالم العزيز” على ظهرها ثمّ رَحَلْت.
لا تجلد ذاتك. لا تفعل أي شيء. عِش اللحظة كبساطة الإعلان الشهير ذاك.
أغمِضْ عينيكَ، تَرَ العالمَ العزيز في عتمة خيالِك.
نُشِرَ في شباب السفير في 17 حزيران 2009