ابتسمَ لكِ شارلي
نُشر في May 20, 2009
“ألم تفهم بعد؟ أنا فقط مثل هذا العالم حولك، لا أتغير. نحن لا نتغير”.
هذا ما قلتِه لي تلك الظهيرة. أنا ومذ ذّاك أحلم، أتذكر أكثر ما أحلمه، وأهلع. نعم. أجزع لأني تذكرتُ حلماً. لا تضحكي. اعتدتُ أن أحلم طبعاً. من منا لا يحلم؟ هذا أمر أكيد. لكني اعتدتُ أيضاً أن لا أتذكر في الصباح التالي أياً من تفاصيل حلم الليلة. تتراءى لي منه فقط صور مبهمة. أعرف أني حلمت ولا أعرف مضمون رؤياي. ثم يحدث أن تمر أيام تالية قبل أن أصادف حدثاً من نوع ما، وأظن أني صادفت هذا الحدث من قبل. كأني حلمت به. الآتي سيحصل هكذا، أحضِّر نفسي. دائماً ما يخيب توقعي بالتفصيل القادم من الحدث، لكنّ هذا لا يمنعني من الإيمان أني فعلاً حلمت بذلك التفصيل.
أول حلم حلمته بعد جملتكِ تلك هو وقوفي أمام مرآة حائط. أراقب تحول جانبيْ شعري إلى اللون الأبيض. فقط الجانبين. لم يمتد الابيضاض إلى مقدمة رأسي. شي ما أشبه بتحولي إلى شرير رسوم متحركة يابانية الصنع، رغم أني حافظت على ابتسامتي.
هلعتُ طبعاً، وتوجهتُ إلى ذوي المعرفة. اختلفت جدتاي على تفسير الحلم. الأولى قالت: سيأتيك مال أو يحصل لك شيء خيِّر، والثانية جزمت بموت أحد أعرفه. كلتاهما استعاذت، وطلبت مني أن لا أذكر مضمون حلمي لأحد. أما عمة أبي فأقعدتني في حجرها. قالت وهي ترتل بعض الآيات القرآنية القصيرة القليلة التي تحفظها أن “عليَّ نفس”. تثاءبت حتى طفر الدمع من عينيها، وطلبت مني أن أبتعد عنها، إذ أنها لا تستحمل امتصاص كل تلك الطاقة السلبية.
تركتُ جدتيّ وجملتكِ تصخب هدوء رأسي القديم الذي فقدتُه. فكرتُ أني أعيش في المؤجل. هناك شيء ما لا أعرفه سيحدث في وقت ما قادم، لا أعرفه أيضاً. ولذلك أجزم أنني – على الأقل أنا – أتغير. الأمر أن حكمكِ الجازم المعاكس يرتكز إلى ملاحظتك لما حصل في لحظة واحدة. واحدة فقط. أحدهم في السيارة أمامكِ رمى محرمة ورقية من النافذة، فشتمتِه وجزمتِ بعدها أنهم لا يتغيرون. أو مثلاً، كدتِ تصطدمين بسيارة قطع سائقها الإشارة الحمراء، فتشتمين وتضيفين أن شيئاً ما لا يتغير. (ما لي أستخدم أمثلة السير حصراً؟)
نحن لا نتغير على مدار لحظة. نحتاج إلى تراكم لحظات. نحن في حراك دائم. نهبط، نعلو. لولا الهبوط ما علونا. ولنعلو مجدداً علينا أن نهبط قليلاً. وفي كل مرة، لا تمنعنا معرفتنا الواضحة لهذا الحراك من أن نسقط في هذا الهبوط. هذا أمرٌ لا يمكن تفاديه. هذا صخب الحياة (وإن كانت في بعض الأحيان نسبياً هادئة).
أصدقكِ القول. صديقي كتب مرة قصة قصيرة عن “ساعة ذئب”. تعرفينها؟ تلك الساعة الأكثر إظلاماً التي تسبق شروق الشمس. أنا عشت “لحظة ذئب” في وضح النهار. حدث ذلك تواً بعد جملتِكِ تلك.
“لا أتغير. لا نتغير”، قلتِ. أحسستُ بشيء يصعب وصفه. حسناً. سأستعير جمل صديق غاب فجأة ولا أعرف أخباره. كتب عن موقف مشابه فوصف أنه “رأى الأخضر حوله يزداد اخضراراً (رغم أن أحداً قد لا يهتم)، ولحظ الاستدارات في شعرها (شعر حبيبته) تزداد، واقتنص رؤية نادرة للشحاذ وهو يضحك بإصرار غريب، وتأكد أن الفتاة والشاب اللذين يقطعان الطريق الآن يضغطان على كفيهما المعقودتين أكثر”.
كأن الظلمة اشتدت قبل أن تنبض كل تلك المتغيرات بالحياة وتبرز. “لحظة الذئب” تلك جعلتني متأكداً أني أتغير، وبسرعة لا أستطيع أنا حتى اللحاق بها. هل استوعبتِ ما قلته للتو؟ أقول إنني لا أستطيع اللحاق بنفسي. نفسي أسرع مني. لا تضحكي وتظني أن هذا شيء جيد على الإطلاق. هذا خراب. نفسٌ تسبق صاحبها. إنسان يحدس أنه مسيَّر، لِمَ عليه إذاً أن يحتفظ بالنشاط والرغبة على إتيان فعل ما؟
الليلة وأنا أقف أمام الباب الزجاجي لشرفة شقة قريب لي في بيروت. في فضاء الزاروب كانت هناك وطاويط تمرح في الهواء. ترتطم ببعضها وتكمل استعراضها في الهواء. تقترب طائرة من زجاج الباب من دون أن ترتطم به وتبتعد. عرفتُ أني الليلة سأحلم من جديد . صدق حدسي. رأيتُ شارلي شابلن في فيلم .”Modern Times” كان يبتسم في المقدمة ومشاهد الفيلم تواصل تتابعها في الخلفية. قال إنه يبتسم لكِ لا لي. لم أغضب لتلك الملاحظة، بل سررت. صحوتُ متذكراً الحلم. وللمرة الأولى منذ زمن، لم أفزع.
نٌشِرَ في شباب السفير في 20 أيار 2009