الفلوكة

نُشر في July 9, 2008

Share Button

يا رجل كم أشتاق “للفلوكة”! تعرف “الفلوكة” طبعاً، لا؟ هذا القارب الصغير الذي تجد عدداً هائلاً منه راسياً في ميناء طرابلس. أبي يملك واحداً. يؤجِّره للسياح وللزائرين. هناك، على الجهة المقابلة للميناء، تجد هذا المحل الذي يبيع “السمكة الحرّة”. أقسم أنها أطيب “سمكة حرّة” تذوقتُها في حياتي. السر في التوابل، أظنّ. من الميناء، كنا نأخذ “الفلوكة” أنا والشباب حتى جزيرة الأرانب. صدقني إن قلتُ لك أنّ الماء هناك غير الماء. سآخذك غداً إلى بحيرة قريبة من هنا. لكن لا تخدع بمائها حتى لو كانت فرنسية. كنا نستلقي على طحالب صخر تلك البقعة الطافية المسماة جزيرة، ونأكل السندويشات. ننتهي من الغداء ثم نغطس ونلهو كأطفال.
أتذكر الآن وتبدو صور المشاهد بعيدة. مضى عامان على وصولي إلى هذه المدينة الفرنسية الصغيرة. عامان! هل تصدق؟ أنا نفسي لا أصدق. كأنها البارحة! إسمع. كيف وجدتَ البيتزا؟ هل أحضر لك بعض الزيت الحار لترميَه على سطحها؟ ثق بي. يترك مذاقاً طيباً. رش رش يا رجل. أكثرتُ لك الجبنة. صاحب المحل بخيل، لكني أزيد الجبنة من عندي. كُلْ. كُلْ.
في لبنان لم أكن أخرج كثيراً من منطقة الميناء. “بيروت” حتى بالكاد وطأتُها. أعرف فقط “الكولا”. يملك هناك قريب بعيد لي محطة للبنزين، وأعرف أيضاً “برج حمود”. فيها خَلقٌ كثيرون. على الأقل كانت الحال كذلك في زيارتي الأخيرة لتلك المنطقة. لساني لا ينسى مذاق سندويشاتهم الطيبة. ياه على السندويشات يا رجل. خرجْتُ من “طرابلس” تواً إلى هنا وأنا ابن سبعة عشرة عاماً. ولدٌ لا يعرف “بيروت” يجد نفسه تواً في “فرنسا”. سامح الله أمي. لم تعلمني أن ألفّ سندويشة. لمدة أسبوعين أولين بقيتُهما هنا، ظللتُ  آكل سندويش جبنة من تلك المطبوخة المعلبّة. أسبوعان! هل تصدق ذلك؟ كنتُ لمّا أتصل بهم، يسألونني عن أحوالي، فأقول تمام. تسألني أمي ماذا آكل، فأروح أسرد لها اسم طبخات فرنسية قرأتُها على لوائح الطعام المنصوبة خارج المطاعم، وأنا لم أذق إلا الجبنة. كنتُ أقتصد في المال لأنه كاد ينفد. غلاء رهيب هنا يا رجل.
قلتُ حينها إنني أريد أن “أفلفل” رزّاً. وقفتُ خلف رفيق سكني المغربي، أحاول تعلم طريقة صنع الأرزّ. الملعون لم يرد أن يعلمني. أكثر من الخطوات. يروح ويجيء ويضع إصبعه في الوعاء لتحسس الأرز ثم يضيف الماء. فعلتُ عندها مثله، ولن تصدق كيف انتهى معي الأرز في النهاية: أرزّاً بماء! صرتُ أصفي منه الماء وأحاول تجفيفه لآكله!
في أيامي الأولى، كدتُ أصدق الأفلام العربية تلك التي تروي قصص شباب يضيعون في بلاد الغربة قبل أن أجدَ هذا العمل.
لكنّ كل ذلك بات من الماضي. اليوم، صرت أشهر طباخ بين رفاقي. يقصدونني لتذوق الأطباق اللبنانية، وإن كنتُ ما زلتُ غير راض على تتبيلة “السمكة حرّة” التي تخرج من بين يدي.
اليوم، أحمد الله على عملي في محل البيتزا هذا. صحيح أن صاحبه بخيل في الطعام لكنه طيب جداً معي. يقول إنني أذكّره بابنه الذي هاجر من فرنسا مع صاحبته. طلب مني حتّى أن أدير المحل لوقت كامل لأنه يريد أن يفتح فرعاً آخر في منطقة قريبة من هنا. رفضتُ رغم تأجيل دراستي هذا العام. إفهمني. لا أستطيع أن أدرس الطب وأشتغل. هناك مواد شبيهة بمواد التاريخ والجغرافية في منهاج الطب. كمية حفظ مهولة. سقطتُ في مادتين. لا أود أن أسقط عاماً آخر. سأعلـّق دراستي لسنة. سأكون بعدها مستعداً أن أكمل دراستي بخطى واثقة. بعد العام، سأكون قد جمعتُ مبلغاً محترماً من المال، وأستطيع عندها أن أنقص من ساعات عملي لصالح دراستي. لا أريد أن أتورّط كثيراً في هذا العمل. أحتاج شهادة لا مطعم بيتزا.
ياه يا رجل! لو أنني فقط أملك “فلوكة” كبيرة قوية، تقطع المتوسط! لو ملكتُها لكنتُ أبحرتُ فيها عائداً إلى “الميناء”. سأقضي هناك مدة قصيرة فقط، وأعود إلى هنا، فأنا ـ لسبب ما ـ لا أحب ذلك المكان إلا و… أنا خارجه!
ماذا؟ أنهيتَ صحنك؟ تريد حلوى بالشوكولاتة؟

نُشِرَ في شباب السفير في  9 تموز 2008