الابتهاج الأخير

نُشر في March 26, 2008

Share Button

الكنبة الخضراء في زاوية المقهى، كوب القهوة بالحليب الذي يزداد ضخامةً عَرْضيَّة في كل مرة أزور فيها المقهى ذاته، الفرقة الموسيقية التي تعزف جازاً لاتينياً، العرق على صدغ المغنية والشعرات القليلة الملتصقة على الجبهة، باقة الورد الأحمر الجوري ترميها يد مجهولة من نافذة البيت الأثري، بقعة الماء الراكدة عند مدخل البناية، صفار البيض الذي سقط على زاوية البوتاجاز، الدخان الأسود المنبعث من ناحية الطريق البحرية، الهلال الأصفر المقلوب ككماشة رسمها أحدهم برداءة في خلفية المشهد الذي أنتِ فيه، العينان الخضراوان بين رمشين كُحِّلا بلون أسود، الحذاء الزاحف الذي يناسب مشية ساعة أو ساعتين أو أكثر، السترة المخططة بألوان خارجة من قصة بيت الحلوى الشيطاني الذي تؤكَل أبوابه ونوافذه وكل ما فيه، الابتسامة اللا إرادية على الثغر، العناق لحظةَ الموت المتلفز، اللا عناق الصامت لحظةَ الموت المتلفز العاشر على التوالي، صورة السياسي التي نمثِّل بها، نمزقها بسكاكين المطبخ في أحلام تجتاحنا على مدى أسبوع كامل، عناوين الروايات التي قرأناها وتلك التي تنتظرنا بعْدُ لنقرأها، أروقة المكتبة الجامعية المعتمة، الغبار الغبار الغبار على كتب السير الشعبية النادرة، مقالة الكاتب التي قرآناها سويةً وتخانقنا بعدَها، شتيمتكِ الأولى وشتيمتي الأخيرة (قبل ساعتين من الآن)، بائع اليانصيب الذي باعنا تذكرتين بشطارة فلسفية غير مفهومة، الشحاذ الذي سرق الألف ليرة من يدي قبل أن أعطيه إياها، صبي البويا الذي نقدتِه أجرته ورفضتِ رفع حذائي تجاهه ليدهنه، بائع الورد ذو الشعر المصبوغ الموجود دائماً في زاوية المستديرة، بائع السمسمية الولد الذي يطرح آراءه في السياسة، أبوكِ الذي قدَّم لي كأس فودكا وسألني ذات قعدة عن تفاصيل يومكِ، جفلتُ  يومها وأجبتُه إجابةً تمييعيَّة، ليعاجلني بعدها بمعرفته عدم رغبتي الحديث في الموضوع، أبوكِ أبوكِ أبوكِ (لا أقصدها شتيمة، شعرْتُ فقط أنْ عليَّ تثليثها لسببٍ غير مفهوم)، فيلم شارلي شابلن البسيط، موسيقاه الأجمل، انعكاس وجهينا في زجاج سيارة نظيفة متوقفة فوق الرصيف، العقد الملون الرخيص الذي ابتعتُه لكِ يوماً من عاصمة غريبة ولم تقبلي بعدها أن تخلعيه، الوسادة الدائرية ذات اللون الأخضر الباهت التي دائماً ما أضع رأسي عليها وأغطس فوراً بالنوم لأرى أمكِ تؤنبني، وتطعمني، وتؤنبني، وتطعمني وتشتمني قليلاً ثم تربِّت على كتفي وتقول: الله يعينَك عليها .
كلّ ذلك وأكثر خُيِّلَ لي رؤيته لحظةَ اخترقتْ الرصاصة المبتهِجة الجزء الأيسر من صدري واستقرَّتْ بين أضلعي. خُيِّلَ لي رؤية ذلك كله قبل أن يصعد الدم حلقي وأضطرّ أن أبصقه. أو باختصار، وبلا توْرِيَة، ومضَ ذلك كله أمامي… قبل أن أموت.

نُشِرَ في شباب السفير في 26 آذار 2008

2008 03 26