التقِط غطاء قنينة وقع على الأرض. أخرِج الطابة للقطة من مكان انحشرت فيه. امسَح الطاولة من بقايا التصقت. بقعة شاي؟ تفل قهوة؟ استخدِم الإسفنجة الوحيدة التي، لسببٍ غير مفهوم، لم ترمِها بعد، ولسببٍ غير مفهوم، بقيت على حالها منذ اشتريتَها. أزل البقعة فحسب، وتذكَّر دومًا أنَّ أمك تبدأ حياةً جديدة كلما نظَّفت البيت. تذكَّر كيف...
كانت الأشياء تتداعى من نفسها بلا مفاجآت، ورغم معرفتنا بما سيحدث لدرجة سهولة توقع الهيئة التي سيستقر عليها، لم نعرف إلا أن ننتظر. في هذا كلّه، كانت مأساتنا: انتظار المتوقَّع. اللعبة التي كانت تشعرنا في البدء أننا على حق، وأننا عظيمو التفكير، لم تلبث أن صارت سبب انكماشنا. كنا نحضن أنفسنا مثل أجنَّة لم تولد،...
شهدَت الأيام القليلة الماضية محاولات السلطات اللبنانية طمر الفراغ، بعدما حضر مجددًا في رأس “الدولة” وعليه، مع امتناع إحدى مؤسّساتها الخاصة عن ستر النفايات، بوصفها شكلًا من أشكاله، لتحتلّ القمامة البلد، ويتوزّع المكبوت أمام الأعين، ويبين اللامرئي مرئياً، ويصير نظام التخلّص والطمر معطلاً. انهارَت النظافة، ومعه الجسد الذي تنتجه، وربما لأنها تنتجه، قرف الجسد وانقبض....
ما الذي قد يحدث خلال عام؟ يمكن أن تشتريَ كنبة وأن تخزّق قطتك قماشها، أو أن تفرش سجادة جديدة ومن ثم تغيِّر مكانها، أن تحلق شعرك وتطل ذقنك، أو العكس، أو الاثنين معًا. وقد تشتري القمصان، الكثير منها، لأنك قررت أن تغيِّر من مظهرك، وفي ظنِّك أن هذا سينهي مرحلة ويبدأ أخرى. هكذا سمعتْ، وهكذا...
أعدُ نفسي معكِ بالأحلام التي اعتزلَتني منذ زمن. أقول إنِّي في وجودك سأحظى بالحلم العائد الذي لطالما انتظرتُه. سيكون بألوان غريبة، تقف عند حافة التفاصيل وتأنف عن تخطِّيها. ألوان ليست داكنة جداً، ولا برَّاقة جداً، ولا تفسح مجالًا للظلال. الألوان تطوف، ويعدو الزمن من حولي وتتراكم التفاصيل. هذا الثبات متحرك، أقول. هذا الحراك لا يلتزم الإيقاع المنتظر، أضيف. وحين...
نرحل. نغيب عن الأمكنة، ونمضي أوقاتنا نسأل ما الذي تغيَّر؟ نسأل: ما هذا الذي نشعر به؟ ما الذي زاد؟ وما الذي نقص؟ يتعاظم شعورنا بالنقصان، فندعم أسئلتنا بالزيارات. نظنُّ أنَّنا إنْ عدنا، سنجد الأجوبة. نزور الأمكنة، وتزورنا. نحن ننظر في تفاصيلها، وهي تنظر فينا وتخترقنا. وكلَّما عاودنا الزيارة، أو بقينا في المكان أكثر، غبنا ولم...
تأتيني المشاهد نتفًا كغمام أبيض في سماء زرقاء. أرى الأشياء التي كانت ولم تبقَ، والأشياء التي بقيَت في غير أماكنها القديمة، والأشياء التي صمدَت حيث كانت. يخفت لون الأثاث ويتجمّع الغبار حول حوافه وفي زوايا الغرف. تصفّر الجدران بالتدريج، كأنّها تقول إنّ حياةً ما تترسّب بطيئةً هنا. تنتقل كنبات إلى غرَف كانت مغلقة، وتتعرّى كراسٍ...
المدينة صفراء، قلتُ ناظرًا إلى الصوَر. وتذكرتُ ملصقًا مخزقًا لمسرحية بالقرب من مسرح أغلق. كان اسم المسرحية: “بيروت صفرا”. لم أشاهد المسرحيّة. وكنتُ وقتها بعيدًا عن هذا “الجو”. أخذتني سنوات كثيرة حتى أعرف ماذا أفعل. وهذه على الأرجح سمة في مدن تغلق مسارحها وأماكنها العامة واحدًا إثر آخر، وتدفعك للرحيل: أن لا تعرف، وأن ترحل...
يزورني المشهد مرارًا. يأتيني وأنا أشرب الشاي في الشرفة، وأنا أجلس في السرير آكل، وأنا أقرأ أخبار الحوادث في الصحف، وأنا أحدّق في السقف. عندما أغمض عيني، أعود إلى هناك وأرى كل شيء مختلفًا. تتغيّر تفاصيل المكان. تُنزَع البلاطات من أرض الشرفة. يظهر الرمل بين قطع الرخام المتكسّرة. تصفرّ الخضرة تحت المنزل، وتيبس. لا يبقى...
ليس جبل نفايات هذا الذي عرفَته بيروت اليوم. ليس جبلًا محترقًا. البلد كله كان في السماء، غمامة سوداء أعمَت النظر، ورائحة حريق أزكمَت الأنوف. هرعَت عربات الإطفاء تحاول إطفاء ما يمكن إطفاؤه. هرب السكان من البيوت حول الجبل العائم فوق الماء. أصيب بعض الأطفال بالاختناق وحملهم ذووهم إلى المستشفيات القريبة. وقام من بقي من...
عندما وصل، حمل الكيس، ونزل عند الرصيف المواجه للصخرة. أدار ظهره للمقاهي وقطع الشارع. لم يأتِ إلى هنا منذ زمن بعيد. حوله، ووراءه، وأمامه، مرّ الناس. منهم من يمشي ومنهم من يركض. بخلاف البائعين الذين منعَتهم البلدية من التواجد بسياراتهم وعرباتهم الصغيرة، ما من شيء تغيّر هنا....
أهجس بالرؤوس، ولا أعرف منذ متى تحديدًا. منذ صادفتُ فيها صورة الفنانة مقطوعة الرأس في نيوزفيدي؟ منذ قرأتُ تلك المقالة عن قاطع رؤوس يتجول في الحمرا؟ منذ تعثرتُ بقصة عصابة الرؤوس الشهيرة في المكسيك؟ أم قبل ذلك بكثير، عندما كتبتُ عن أنصاف الوجوه في الرواية؟ أحاول أن أتذكر، ولا أستطيع أن أحدّد لحظة ابتدائية لكل...