“الكيتش”
نُشر في June 20, 2007
الكيتش هو النفي المُطلَق للقذارة بالمعنيين الأدبي والصُوَري للكلمة. (..) يعمل الكيتش على خلق عالم طاهر حيث الأجوبة كلها موجودة مسبقاً والأسئلة مطرودة. (..) هو ليس فقط عملاً قليل الذوق، بل يحتوي أيضاً على موقف وسلوك رخيصَيْن. هو حاجة الإنسان التافه إلى عمل رخيص، الحاجة إلى التحديق في مرآة أكذوبة التجميل، حتى تغرورق عيناه بدمع الفرح والرضى لرؤية انعكاس صورته الخاصة.
– ميلان كونديرا .
الكلمة الألمانية التي اتُخِذَتْ في البداية للتعريف عن النفاية الخالصة تحوّل معناها تباعاً. قيل عن الكيتش إنه النفاية المحلاّة، أي الجمال ناقص جزؤه القذر . إذاً، هو الجمال المطلق مع غض النظر. هو النسخة عن نسخة فنسخة فنسخة في تقديمٍ جديد. هو الكليشيه أحياناً، القضية المحِقّة ممجوجةً على لسان أحدهم أو بتكرار سلبي. هكذا يربط البعض الكيتش بالأشياء المشغولة برداءة مفرطة لدرجة جعلها جيدة بالمعنى الساخر للوصف.
للكيتش معنى سجالي، ومستوى الخديعة البصرية (أو السمعيّة) فيه يختلف من شخصٍ إلى آخر. هو يتراوح بين رداءة واضحة لفريق، أو عادية تُعَوَّدَ عليها حتى باتت طبيعية لفريق ثانٍ، أو جمال ينفي أي رداءة لدى الفريق الأخير وهم من يصح إطلاق لفظ المأخوذين عليهم.
آخذين بالاعتبار أننا على خشبة مسرح كبير، إلى أي مدى يتواجد الكيتش في التالي سياسياً وإعلامياً(؟):
لازمة الحريّة، السيادة، الاستقلال. إعلان حب الحياة. إعلان التأكيد على حب الحياة المعارِض. نسخات التظاهرة المليونيّة الحضاريّة وشتائمها الفرديّة . مبدأ الممانعة عن المقاومة كخيار مقاوِم. بعض معارضة تتحدّث عن الأسرى في اسرائيل وبعض موالاة تتحدّث عن المعتقلين في السجون السورية. الاهتمام الإنساني الحثيث الذي بدأ منذ اتفاق الطائف بحق العودة من قبل انعزالي سابق. اهتمام المجتمع الدولي المستمر منذ الاستقلال الثاني بتحقيق العدالة في لبنان. تيمة طاغية، الداخل سبباً لتحرير آتٍ من الخارج. انفجار الأمس وعواطفه غير المخطئة. عفواً، انفجار اليوم وأحاسيسه المصيبة. الخبر العاجل من نهر البارد وعمره تقريباً شهر. الخبر العاجل من فلسطين وهو عجوز ستيني. مضمون بيانات النعي. اللطمة التلفزيونية ما بعد نبأ الشهيد. فواصل الشهداء التلفزيونية التي تفصل بين الإعلانات التجاريّة. ترقيص الكفن الملفوف بالعلم ذي الألوان الثلاثة. النقل الإخباري المباشر لبقايا السيارة الملغَّمة. الدول الصديقة والغريبة معزِّيةً بشهيد اليوم. التأكيد اليومي على عدم استعداد اللبنانيين لدخول حرب أهلية جديدة، ومعه لفظَيْ الانصهار الوطني والعيش المشترك. لفظ الوطني الملحق الدائم بأسامي الأحزاب والتيارات والحركات. لافتات اللجان المدنية والعلمانية للمحافِظة على السلم الأهلي. العلمانية في تيارَيْ المستقبل و الوطني الحر أوقات الحشرة أو الانتخابات. مشهد الزعيم وهو يثني على جمهوره. دمع المغترب لدى سماعه أغنية فيروزية. المغترب ذاته وهو يتحدّث عن جمال لبنان وهو في الخارج. شتائم المغترب ذاته في يومه الثاني من إجازته في لبنان. ملكة الجمال ترفع رأس لبنان في أصقاع المعمورة.
الكيتش باختصار هو الرداءة الخلاّبة. يؤخَذ به المتلقي لأنه يصل إليه عبر مسّ عاطفة أو ذكرى أو مضمون يتماهى الشخص معه. وهو تبعاً لذلك متواجد يومياً في شوارع وشاشات وعلى ألسنة من في أرض بلاد ي أو… بلاد هم . يُستحضَر مراراً من غير أن يعرِّفه أحد في تاريخٍ اجترّ أحداثاً قديمة تطوّرت تقنياً فقط. أما نحن فمبهورون ببعض وجوه، ببعض كلمات. مأخوذون إلى الجحيم على طرقٍ عُبِّدَتْ وساعدنا بتعبيدها بأنفسنا. لكننا لا نستطيع إلا أن نتحلى بالخيال من دون أن نفرّط. فالإفراط يحوّل الخيال وهماً ومع الوهم تولد الخيارات الخاطئة . ثم يأتي الإحباط تالياً قبل إدمان اللا مبالاة. جرعة من الخيال تكفي. جرعة من الأمل جيدة. أما الإدمان فهو افتتانٌ دائمٌ مغلَق. وهمٌ يبدأ ولهاً ويتحول مأساة. ومع الانغلاق المأساوي، تتحوّل أسطورة الخلاص الجماعي هباءً.
علينا أن نبتعد للحظات إلى الوراء للنظر إلى المشهد البانورامي. نحتاج أن نستعيد توازننا المفقود، ولتحقيق ذلك فلنجرِّب أن نخرج من كيتشاتنا قليلاً. قليلاً وليس كلياً.
نُشِرَ في شباب السفير في 20 حزيران 2007