التطرف في الصفحة الأولى

نُشر في December 27, 2006

Share Button

في صغري، درجت معلمة الإنكليزية على إسماعي الجملة الآتية: أنظر إلى السياق الذي وردت فيه الكلمة، تفهم معناها . أنا الآن داخل غرفتي في إحدى مدن شمال بريطانيا، داخل السياق تماماً، لكنني لا أفهم.
الشتاء مختلف هنا. لا أفهم كيف يسمون البصق النازل من الأعلى مطراً. الشتاء هنا غيم يحجب السماء نهاراً وريح تعوي خارج النافذة ليلاً. إلاّ المطر يأبى أن يكون متطرفاً. يمضي للحظات كرذاذ البحر ثم يتوقف قبل أن يعاود لمساته السمجة على وجهك.
التطرف موجود دائماً في الصفحة الأولى. دائماً تجد الجريمة. إنتقِ ما شئت: اغتصاب، قتل، جنس. إبدأ نهارك بأخبار خارجة عن المألوف. جريمة الأسبوع: سفاح المومسات. ثلاث مومسات والعدد إلى تصاعد. الشرطة تسابق الزمن. إنه موسم الأعياد ينقلب جحيماً على كل مومس تمضي ليلتها في الشارع في انتظار زبون. الصحف والجرائد تبيع القصة لزبائنها. المحللون النفسيون يظهرون على شاشات التلفاز ليطرحوا رؤيتهم حول القاتل. في هذه الأثناء، تأبى ملصقات جيمس الأخير أن تُزال من على الباصات، وإن بدت خارج السياق.
أنا في غرفتي والجنون يكمل في الخارج. هنا في المنطقة التي تزخر باللحم الحلال، لا تسمع عن جرائم كثيرة. هي منطقة أشبه ما تكون بالمجتمع المنغلق. الكل يعرف الكل. هذا ابن فلان وتلك بنت علان، والجامعة الوحيدة هنا تجمع أبناء العائلات على مقاعدها. البارحة كان معرض الصور عن فلسطين. غداً ندوة عن أفغانستان.
أنا ما زلت لا أفهم. وليم وهاري يعلنان احتفالهما بعيد والدتهما بعد 10 سنوات على رحيلها. يبتسمان أمام الكاميرا. يظهِّران للمشاهدين صورتيهما الوفيتين الخالصتين من أي شائبة. تماماً كما يُراد دائماً لأفراد العائلة الملكية أن يكونوا. الموسم موسم أعياد والكل يتسوق ويشتري هدايا الميلاد، سفاح شرق انكلترا لا يزال يقنص مومساته وهاري ووليم يحضَّران للعيد. أنا لا أفهم وأحتاج أن أنام قليلاً. أهرب من نهاري الغريب إلى سريرٍ أنشد فيه بعض الراحة. أستيقظ ليلاً والحلم لا زال حاضراً أمامي:
فريال كريم تتأبط ذراع محمد شامل وتغني: عم بزعلني ليللو، بقللو ولا ما بقللو؟ .
ما الذي أتي براحلي طفولتي إلى هنا؟ نشدت بعض الراحة فأبت الغرابة إلا أن تتبعني! الساعة ما زالت تقارب الرابعة صباحاً والسخان انطفأ. أقوم فأسقط باونداً في العداد. أعيد إشعاله وأعود إلى سريري البارد وأنا ما زلت أفكر في معنى حلمي الغريب.
صباحاً، ومع مروري في ساحة المدينة، تعلن شاشة ال بي بي سي العملاقة إنه قد تم العثور على جثتين أخريين. ربما عليّ أن أخرج قليلاً من السياق. فلأتصل ببعض الأقرباء من لبنان: الكثير من الكلام العائلي، الكثير من تجنب السياسة. وحدها خبرية صغيرة تطيح بكل هذا التجنب. تقول خبرية قريبتي إن تلامذتها في حصة الأدب العربي سألوها إن كان المتنبي سنياً أو شيعياً.
أنا حقاً لا أفهم. كل هذا يبدو خارج السياق، كأن تتصور فريال كريم تغني أغنيةً لمارسيل خليفة.

نُشِرَت في شباب السفير في 27 كانون الأول 2006