“إضغط على الزر”

نُشر في December 13, 2006

Share Button

تعتذر مني الممرضة للمرة الرابعة عن حرب تموز على الرغم من أنني لم أطالبها بأي توضيح. جنسيتي أفضت إلى مثل ذلك الحديث. تؤكد لي أن لا علاقة لها أو لشعبها بما جرى. لم تساند الحرب ولن تساندها يوماً. تحيلني إلى موظف في البيت الأبيض. تفند لي بالأقوال أنه هو المسؤول، أما دميته هنا فلا تهتم لها. لا تلحظه. هو غير موجود بالنسبة إليها وإلى كثيرين.
تقيس لي ضغطي وتسألني عن عائلتي خلال الحرب. أجيبها بأنهم كانوا بعيدين عن ضاحية بيروت. لكنهم يشاهدون كل شيء من الشرفة: الأضواء القاتلة والأصوات التي تزداد كتماناً مع تطور الأسلحة. تجزع عيناها تماماً مثل كثر يشاهدون الحروب عبر التلفاز. هل أخبرها أنه خلال الحرب يلتقي أقرباء بعد غياب، يأكلون البزر والفشار ويخترعون النكات؟ لا. فلأدعها في نمطيتها التلفزيونية. فلتبقَ كما هي تشعر بالأسى وتتوجس وتعتذر.

***

جلد الذات هو صفة مميزة ومرافقة لكل مغترب يعيش بعيداً عن بلده. يشعر المغترب بالمسؤولية عما يجري. تصبح لا مبالاته سبباً أفضى لما جرى. يسائل نفسه فيما المسؤولون يتفنون في إلقاء التبعات على بعضهم. يهمل عمله لصالح متابعة الأخبار المنتقاة على المحطات الأجنبية. يرفع من مستوى التأهب لديه. لا يرفض إجراء مقابلات إذاعية تم تحضيرها عبر أصدقاء عرب.
يجري المقابلة. يجد نفسه بعد فوات الأوان ضيف برنامج شبابي تافه عن اندماج العرب بالمجتمع الألماني. يعدل من لهجته كي لا يبدو لا سامياً. يأتيه صوت إسرائيلي من وراء الحدود فيصمت. يتجاهل الإسرائيلي ولا يخاطبه. ذلك أقصى ما يمكنه فعله في تلك اللحظة. المذيعة تسأله حول السلام فيتملص من الإجابة. ثم، وبعد إصرار يسألها عن أي سلام تتحدث؟ ليأتيه الجواب كما في مسابقات الجمال الخالصة من دنس الحياة: السلام العالمي.
تسألينه عن السلام العالمي مع كل هذه الحروب المشروعة والمشرعة. هل علمتِ الآن لم انقطع الخط؟ لا. لم يكن خطأ تقنياً. على كلٍ، ستكمل المذيعة البرنامج مع آخر أخبار باريس هيلتون.

***

أنا في غرفة المستشفى. أنظر فأجد أنني العشريني الوحيد بين عجائز. سؤال الجنسية هنا واجب ملحوق بِ: هل تتكلم الإنكليزية؟ . أتردد قبل أن أجيب ثم لا أجد مفراً من إعادة تأكيد هويتي. اعتذارات بالجملة مجدداً، كلام عن الحرب، ثم قصصهم الصغيرة.
هنا العجوز يستقلّ لمّا يتخطى الستين بعكس ما يحصل في المشرق. هناك، يعود طفلاً لأولاد كان ولي أمرهم لسنوات. يصبح عاجزاً يمضي أيامه الأخيرة ويُنظر إليه بعين الشفقة. أما هنا فالوضع مختلف. العجائز يخلقون تجمعهاتهم الفريدة في الباصات مروراً بالمراكز التجارية وصولاً إلى الحدائق.
لا تؤرقهم فكرة الموت. سهل جداً أن ترى عجوزاً يسند زوجته، يمشيان سويةً. قد يحمل من الأمراض الكثير، بدءاً من الاهتزاز وصولاً إلى الكرسي المتحرك يجول به الشوارع. لا. الموت ليس النهاية. الموت هو الأصل لا الحياة. مخطئ من يظن أن الحياة تؤسس للموت. هو الموت من يعطي الحياة معناها. هنا يحتفلون بالموت. لديهم متسع من الوقت ليتحضروا له. هو الحفلة الأخيرة، موعد الوفاء الأخير. يطالبون بأن يُدفَنوا مع أحد أو يُنثروا رماداً فوق محيط مُرفَقين بأغنية مميزة أو صورة عزيزة.
أما أنت يا عزيزي، خلف البحار، فهل فكرتَ يوماً كيف تريد أن تموت، أم أن الرصاصة قد تأتيك من حيث لا تدري؟

***

في حلقات المسلسل الأميركي ضائعون ، يعاد ترداد جملة: اضغط على الزر . يضغط الممثل على الزر قبل نهاية العد العكسي. يخاف من المجهول. يظن أنه قيد تجربة فريدة من نوعها فيواظب على المهمة ويعيد الضغط على الزر. ثم، وفي إحدى لحظات المساءلة الذاتية، ينتفض ويرفض إكمال ما اعتاد عليه. يهشم الكمبيوتر وينتظر حتى انتهاء العد العكسي فتحل الكارثة لكنه ينجو بأعجوبة. النجاة هنا تعيده ذليلاً وعبداً لفكرة الزر. هنالك من هو أكبر منه. من هو متحكم في نظام حياته هناك. من يرشده إلى طريقه الآتي.
المعادلة بسيطة: إضغط على الزر فتهنأ بحياة روتينية لكن آمنة، انتفض على الأوامر العليا وضع نفسك في مواجهة المجهول. من قال لك إن المجهول قاتم دوماً كما يروَّج في حلقات السلسلة الاميركية؟

(لندن)
نُشِرَت في شباب السفير في 13 كانون الأول 2006