“باكستان” إنكلترة
نُشر في November 1, 2006
العروس الباكستانية تلبس فستان العرس السكَّري لا الأبيض في الحديقة الخضراء وتبتسم. تلتقط صورها مع عريسها الآتي من وراء الحدود. يحتضنها لتأريخ اللحظة. غداً، تصبح لحظتهما هذه حاضرةً فوق رف خشبي، مواكبةً نمط الحياة الجديد. تصير قطعةً من الديكور تعرض أمام الزائرين. بعد شهور، تنضم إليها صورة الطفل الأول. تحتفي به العائلة كمن يؤكد على نجاح المهمة الأولى.
باختصار، للعائلة في المجتمع الباكستاني في برادفورد أهمية خاصة.
تشعرك البيوت المرصوصة هنا أنك تعيش في حزام بؤس. لكن أغلب القاطنين هنا هم من الباكستانيين الذين يشتهرون بأعمالهم التجارية الناجحة التي تدر عليهم أموالاً طائلة. لمَ الإصرار إذاً على العيش في بيوتٍ تبدو كأنها نجت من حرائق؟ لِمَ ترى البيوت تشتم أصحابها كلما نظرتَ إليها؟
هنا، معظم البيوت تملك مسحةً سوداء. توحي بالفقر. ومع الفقر تأتي الحميمية. حميمية تراها في الأولاد المجتمعين في الأزقة بإذن من أمهاتهم اللواتي يردْنَ الاستفراد بمطابخهنّ.
رمضان الإنكليزي/الباكستاني مرّ مختلفاً. لا طوفان في البرامج الدينية أو المسلسلات الدرامية على التلفاز. لا آذان مغرب يظهر شهراً كل سنة على المحطات التلفزيونية المحلية ثم يغيب. لا هُدَن إعلامية مخروقة بموائد إفطار وعباءات. ليس هناك أي شيء من هذا كله. أنت فقط تشعر برمضان في المساء عندما تخرج إلى شوارع برادفورد: سكون، لا أحد في الطريق، لا سيارات، لا قطط. فقط، بضعة أمهات يهرعن من موائدهن لالتقاط الغسيل من خارج بيوتهن الأرضية تحسباً من عاصفة آتية. وفي ركضهن، هربٌ من احتمال تلصص عينٍ غريبة عليهن.
السبت الأخير من رمضان هو نهار عطلة كالعادة. مطعم البيتزا الأشهر مكتظ. الطوابير تصل إلى خارج المحل. معظم المنتظرين طلبوا طلبياتهم عبر الهاتف في وقت سبق حضورهم لاستلامها.
الانتظار ممل، ومن الأفضل انتقاء مطعم آخر خارج النفوذ الباكستاني . إلى الباص إذاً.
منذ أشهر، وُجِدَت قنبلة تحت أحد المقاعد في محطة الباصات التي كنت أستقل منها باصي. أغلقت الطرقات واستنفرت الشرطة بسياراتها و… خيولها. فبتُّ أستقل الباص من الشارع بدلاً من المحطة.
يقترب شاب آسيوي ويفتح معي حديثاً عن الإسلام والمسلمين. للحظة، أخاله عربياً يرفض الواقع ثم أتذكر أنني لم أكترث لحرب بوش في أفغانستان ولا أعرف شيئاً عن الأحداث في باكستان. أبتسم. أدعه يتكلم وأومئ برأسي أو بكلمات تجعله يطيل حديثه. أشعر بالذنب. ربما كان عليَّ أن أتسمّر أمام أحداث أفغانستان التلفزيونية أكثر. ربما كان عليَّ أن أواكب تيسير علوني في تقاريره الإخبارية. أو ربما فعلت الأنسب، فلم أتعلَّق به لأراه حبيساً فيما بعد.
يصل الباص، أودع الشاب الآسيوي الباسم.
هو الباص الأخير قبل موعد الإفطار. يزدحم بالعائدين من مراكز عملهم إلى وجبتهم اليومية الوحيدة. الوجوه تعبة إلا من بعض الصبية المتمردين الذين غالباً ما يحتلون المقاعد الخلفية. يديرون مسجلاتهم ويفرضون موسيقى أميركية رديئة على الآخرين.
في العودة إلى البيت الباكستاني الأصل، أجري بعض المكالمات إلى لبنان. أعيِّد البعض مازحاً، وأتأكد من أن جدتي ما زالت ترمي إسرائيل بدعاويها الربانيّة القاتلة . إذاً، كل شيء على ما يرام.
أصل إلى شقتي فأجد صاحب البيت ينتظرني. يمسح بيده على ذقنه البيضاء وشاربه الحليق، يبارك لي بالعيد ويطلب مني الإيجار. أصعد، أحضر المال وأعود إليه. مفرقعات العيد قوية، تملأ السماء.
هنا في باكستان إنكلترا، تختفي قوانين الحياة الإنكليزية كلياً.
(برادفورد)
نُشِرَت في شباب السفير في 1 تشرين الثاني 2006