“فرش وغطا”: الصمت والصخب
نُشر في October 29, 2013
ملاحظة: هذه القراءة قد تحتوي، في بعض تفاصيلها، على مفسِدات فرجة
معاكسًا لمناخ البهجة الوطنية المصرية الحالي، يأتي فيلم “فرش وغطا”، التجربة الروائية الثالثة للمخرج المصري أحمد عبد الله السيد، بعد “هليوبوليس” (٢٠٠٩)، و“ميكروفون” (٢٠١١). ففيما عرض “هليوبوليس” المزاج الاكتئابي المرافق لترهل دولة يوليو في أطوارها الثلاث التي أفضت (من ضمن ما أفضت) لوحدة وهرب الأقليات وتشوّه العمارة وتعاظم حلم الهجرة، جاء “ميكروفون” الذي، للصدفة، طُرِح حينها في الصالات المصرية عشية الثورة، أكثر تفاؤلًا، مقدمًا بيئة شبابية موسيقية متمردة على مؤسسات الثقافة المصرية، ومبشرًا بمزاج اعتراضي شبابي تصدّر الصورة العامة للثورة المصرية.
وإذ تشارك الفيلمان الأولان لعبد الله في رواية قصص “الحب الفاشل” بالتوازي مع باقي التفاصيل في ثنايا الحبكة الفيلمية، فإنهما انتهيا أيضًا إلى النهاية الخافتة السلبية نفسها، الأول على سطح عمارة مع الإجابة الصوتية من الحبيبة، والثاني على البحر مع فشل الحفل الموسيقي وتدهور العلاقات العاطفية لأكثر من شخصية.
فيلم عبد الله الأخير يجيء متقاطعًا مع الفيلمين السابقين، آخذًا من “هليوبوليس” مزاجه الانتظاري، ومتابعًا مآل المزاج الثوري الذي يحكم “ميكروفون”. وإذا كان “هليوبوليس” هو فيلم أعوام الانتظار التي سبقت الثورة، و”ميكروفون” هو فيلم الثورة الوشيكة، فإن “فرش وغطا” هو فيلم الثورة إذ تحدث الآن (فقط حتى الآن؟) في الخلفية.
الفيلم الذي يرتكز على حادثة فتح السجون (أو هرب المساجين) في الأيام الأولى للثورة في عام ٢٠١١، يلاحق قصة السجين الهارب (يلعب الدور الرئيسي آسر ياسين) الذي يصاب صديقه إثر هروبهما معًا فيتورط في متابعة “وصيته” بتوصيل رسالة إلى زوجته، ونشر الفيديو الذي سجّله على خلويّه موثقًا عنف السجن الذي تعرض له المساجين.
لا يعرف المشاهد خلال رحلة الهرب في الفيلم تهمة السجين الهارب و لا قصة صاحبه، لا تفاصيل تُقال عن فحوى الرسالة/الوصية. ويبدو هذا مطلوبًا في سياق الصمت الذي يطغى على الفيلم الخالي (تقريبًا) من الجمل الحوارية على ألسنة ممثليه المحترفين. فالكلام في الفيلم مفسَح فقط لحديث سكان المناطق الفقيرة الحقيقيين الذين يلتقيهم الهارب، ولسماع شهادات الطبقات الفقيرة التي ضاعت في مركزية ميدان التحرير الذي يظهر في تلفزيونات مشوّشة الإرسال، أو في حديث حماسي يخفت جليًا وراء صوت محرك دراجة نارية.
وهكذا، محتميًا بحقيقة أن الحدث الأصلي لم ينتهِ ولا يزال قيد التفاعل، يردم الفيلم في صمته وشهاداته الحقيقية المدخَلة في السياق الحكائي المسافة بين التخييل و التوثيق. و يستمر هذا الردم في انتقاء أحداث عنفية متفرقة زمنيًا، ووصلها ضمن بناء القصة الأصلي المتخيَّل، ليبدو التوثيق خاضعًا و خادمًا للمتخيَّل الذي لا يبقى متخيلًا بدوره إلا من خلال قفزاته الزمنية، مستعيرًا من الوقائع حقائقه ليصير أكثر قوة وإقناعًا، ويجد المشاهد نفسه إزاء تبادل أدوار بين النمطين الفنّيّين.
هارب “فرش و غطا” في رحلة مصيره المحتوم لا يتورط في تقمص القالب السعيد مهراني (نسبة لشخصية الخارج من السجن المنتقم في رواية “نجيب محفوظ” الشهيرة “اللص و الكلاب”)، بل يبدو متعففًا عن الانتقام، يمزق صور حبيبته التي صارت مع آخر ملتحٍ، ويترك البيت لزوج أخته بلا مواجهة، ويمشي في جغرافيا الغبار والقمامة، ويساعد شيوخ الإنشاد في إصلاح معداتهم الصوتية، ويستمع إليهم ومعهم لأشعار ابن الفارض والحلاج الصوفية المغناة. إنه يعود شخصية عادية، أو يعود سجينًا صاحب حقوق، ويعيد الثورة المصرية إلى واحد من شعاراتها الأولى “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، الشعار الذي اختفى تحت وطأة المزاج الكرنفالي الوطني الذي بات يتسيّد أخيرًا الشاشات و الصحف، وزخم ذمّ المطالب المحقّة بتهم بؤس الأخلاقيات، والانفصال عن الواقع، وصولًا إلى تهم الخلايا النائمة والتحالف مع الإرهاب.
وإذ تخلّص الفيلم من يوتوبيا الصورة الناجحة المفضلة إعلاميًا عن ثورة الشباب المتعلم المصري، يوجّه في نهايته القاتمة تحيات لشهداء سقطوا في أحداث مفصلية من الثورة الشعبية، بعضها لم يحظَ باهتمام شعبي، لتعارضها مع واقع التحالفات السياسية، إخوانًا وعسكر.
هكذا، ينتهي “فرش وغطا” إلى ما خلاصته إن هناك، تحت السردية الواحدة الوحيدة، قصصًا أخرى لتُحكى، ولو لم يُعرَف عنها الكثير. إنها قصص موجودة. في صمتها قبالة الصخب.. موجودة.
*نُشِرَ في موقع “مدى مصر” في 29 اوكتوبر 2013.
*”فرش وغطا”، عرض في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان أبو ظبي السينمائي
كتابة: أحمد عبد الله السيد، بمشاركة عمر شامة. إخراج: أحمد عبد الله السيد.
تمثيل: آسر ياسين، عمرو عابد، يارا جبران، محمد ممدوح، عاطف يوسف، محمد فاروق، سندس شبايك، حمدي التونسي، مني الشيمي، سيف الاسواني، مريم القويسني، مايكل ممدوح، لطيفة فهمي.
مدير التصوير: طارق حفني. مونتاج: هشام صقر. إنتاج: “فيلم كلينك” و”مشروع” بالتعاون مع “أضف” وآفاق”.