الغزال الجامح
نُشر في October 18, 2006
نحن لسنا فقط أسرى تاريخنا، نحن حبيسو اللحظة الراهنة .
هكذا يلخص صديقي الفلسطيني يومياته في الشتات. لا التاريخ منصف، ولا اللحظة الراهنة مطمئنة. ينظر بعين من الأسى إلى المناوشات الداخلية. هنا، في مانشستر، يحتدم النقاش بين الشباب الفلسطينيين. كيف نعيد تظهير مأساتنا في الأدب من دون أن نقع في دائرة التكرار؟ يقول البعض أن حس الفكاهة الأسود بات يلف معظم الأعمال الأدبية والفنية الفلسطينية، ويذهبون إلى قول أن السخرية تعبر أكثر من النكد . يرد آخرون بأنها ليست القاعدة. محمود درويش أبعد ما يكون عن الفكاهة . تتعالى الضحكات ويُتابَع الموضوع. يتوجس قلة من وقوع الفكاهة في دائرة العبثية، يُرَدّ عليهم بأن الواقع ذاته عبثي أسود والناس لا تستطيع إلا أن تتابع التندر. الفكاهة تتوازى مع البلاء، والحياة تنمو في حضرة الموت.
هو الموت ذاته الذي يعيد طرح مسألة العمليات الإستشهادية . سئل أحد الكتاب الفلسطينيين هنا عن تجاوز الأدب الفلسطيني لهذه القضية. يجيب الكاتب أن الغياب قد لا يكون مقصوداً وليس ذا دلالة ويعيد الحديث إلى حرية الكاتب في انتقاء ما يريد من المجتمع ثم ينتهي الموضوع بطلب طرح سؤال آخر.
نخرج باكراً من المحاضرة التي كان من المفترض أن تناقش الأدب الفلسطيني فانتهت إلى مناقشة السياسة الداخلية الفلسطينية. أمامنا ساعة قبل أن تبدأ طقوس ريم الكيلاني. نتوجه إلى مطعم الأكلات العربية السريعة الذي يقع عند تخوم قرية المثليين الأكبر في مانشستر. أسوأ ما في الأمر هنا هو اضطرارك لتدخين سيجارة ما بعد الأكل خارج المطعم. شاشة ال بي بي سي المعلقة في الساحة تنبئ بانخفاض درجات الحرارة في الأيام المقبلة. نصل إلى البار حيث الحفل الموسيقي. بضعة مغنين معروفين ثم تصعد ريم الكيلاني إلى خشبة المسرح وتبدأ الأمسية. ريم تأبى إلا أن تجعل من الجمهور شريكاً في العملية الفنية. فهو إما يشارك بإيقاع التصفيق أو بالدبكة جلوساً أو بالهدهدة أو حتى بالنحيب. هنا، يجد الجمهور نفسه محاصراً بدرويشين: محمود وسيد. هنا، الحميمية ليست طارئة بل جزءاً أساسياً من الفعل الموسيقي. الأمسية تطول من غير أن تشعر بها لكنها لا بد أن تنتهي ويعود كل إلى داره.
في الطريق إلى القطار الذي سيفوتني، أستعيد مشهد الرجل الحانق في يد إلهية (فيلم للفلسطيني إيليا سليمان) الذي يأبى إلا أن يعيد تخريب طريق بيته التي أصلحها العمال الإسرائيليون. لا يكتفي بذلك بل يتأكد من أن حفرته المستجدة هي بقياس الحفرة التي ردمها العمال سابقاً. ابتسم. هكذا هي فلسطين، أشبه ما يكون بالغزال الجامح على الرغم من كل شيء. أتذكر الآن لحظة أسر لي صديقي: أتمنى ألا أصل إلى مرحلة تبرير لحظات التخلي التي غالباً ما أمر بها. تلك هي أمنيتي الوحيدة .
(مانشستر)
(نُشِرَت في شباب السفير في 18 تشرين الاول 2006)