حرتقة بالوراثة
نُشر في January 30, 2013
ليست المرة الأولى التي تتمظهر فيها الهوية السياسية الضيقة للشاشات اللبنانية المحلية. ولا المرة الأولى التي تلعب فيها بعض وسائل الإعلام على أوتار الرهاب الطائفي والمذهبي، والهوية الحزبية الضيقة، والإرث الكلامي لمرحلة الحرب اللبنانية وما تلاها. المسألة سابقة لظهور النشرات السياسية، وكرست قانونيًا مع رخصات المحطات التلفزيونية، مع استثناءات قليلة بتغيّر الوجهات السياسية لنشرة أخبار أولى، أو مع بعد أكثر اختلاطًا في طاقم أو مقاربة قناة ثانية.
إلا أن المسألة آخذة في التمادي المجهري، من السياسة العامة للمحطة، مرورًا بالمقدمات والتقارير التلفزيونية وصولًا إلى الأخبار الاستقبالية المفروضة في بعض النشرات انتهاءً بـِ.. البرامج.
المثل البرنامجي الأول لهذا التمادي هو “دي أن آي” (التحليل الإخباري اليومي)، والذي يقدمه نديم قطيش على شاشة “المستقبل”. يلعب عنوان البرنامج على معنى الاختصار المعروف للحمض النووي الوراثي في نقده للطرف السياسي خارج 14 آذار (وأحيانًا خارج تيار المستقبل). كأن به يقول: “هذه أفعالكم بالوراثة”، وهي مقاربة إقصائية حتى لهؤلاء الذين يتفقون مع قطيش في كثير من النقاط السياسية. البرنامج الذي لا يتوانى في شرح مواقف جلية للمشاهد، ينتهي بيانًا مصورًا لمشاهد حزبي، يعتمد عليه ليبني موقفه في الغد. إنه برنامج لمشاهد مغيّب يستلهم لغة المنابر الدينية اليقينية التي ينتقدها.
وكما “دي أن آي”، تنطبق صفة الملل المدهش على برنامج آخر هو البرنامح التعليقي (أكثر من كونه حواريّاً) “حرتقجي”، والذي يقدمه هشام حداد مع آخرين على شاشة “أو تي في”. فما إن يعلن عنوان الموضوع الذي “سيناقَش” حتى لا تخيب التوقعات في المونولوغ المنتظَر من هشام ورفاقه.
فـ “حرتقجي” الذي يتعاطى أمورًا فنية، لا يتوانى أحيانًا عن الاستثمار في المونولوج السياسي العوني والرهاب الإعلامي المسيحي المصدّر، في أمانة مملة لخطاب قيادات سياسية عونية.
وإذ يحاول البرنامج تخطي حدود المساحة العونية إلى “براحٍ مسيحي” يرمي مثلًا أول للمشاهد: “لماذا كل ما بيتفقوا الأحزاب والشخصيات المسيحية، بيتهموهن بالعنصريين؟”
ثمّ يأتي، في حلقة سابقة، انتقاء تعليقات خاصة للإعلامية ديما صادق تنتقد فيها عنصرية الخطاب السياسي في ملف النازحين (تشاركت الستاتوسات مع مجموعة من أصدقائها على فايسبوك، ولم تفتحها للعرض العام) كمثل ثانٍ، فيتلقفها البرنامج ليقول “إننا مش عنصريين”.
ولا ينفع أن تناقش مونولوغًا كهذا بشرح كونه تعديًا موصوفاً في أصول تعاطي الإعلام الرئيسي مع الإعلام الاجتماعي، وقصور فهم واحترام لدرجات الخصوصية على الشبكات الاجتماعية. إذ، تسيطر على البرنامجين لغة الزاروب، وكلام النواصي المراهِق الذي لا ينفع في مناقشته أي منطق سويّ.
قد يكون أصدق ما في برنامجيْ “أوتي في” و”المستقبل” عنواناهما، اللذان إذا ما جُمعا في معنيَيْهما الظاهر والباطن، أنتجا عنواناً آخر هو “حرتقة بالوراثة”. هي فعلًا “حرتقة” بالوراثة لن تتوقف في أمد منظور، لا لسبب إلا لأنها تشبه الأرضية السياسية التي رخّصت للمحطات، وتشبه مشاهداً حزبيّاً مغيَّباً ومصفقاً لنجاح توقعاته المعروفة. وهي أيضًا ستتواصل لأنها الوريثة الإعلامية الشرعية لممارسة سياسية أوصلت لمناقشة قانون انتخابي كقانون اللقاء الأرثوذكسي محتمية بذريعة من نوع.. “ما نحن هيك؟”.
نُشِرَ في جريدة المدن الإلكترونية