خدمةً لـ”صورة لبنان”.. الـ”أم. تي. في.” ترتدي البرقع

نُشر في July 16, 2012

Share Button

كمغتربٍ يختار مقاطعة الأخبار التلفزيونية اللبنانية أحياناً، ذهلتُ لدى مشاهدتي إعلان «أم. تي. في ـ صورة للبنان»، على موقع يوتيوب. نسمع في خلفية الإعلان أغنية «لبنان القوي». وبعد نصيحة «أخوية» ـ قد تكون محقّة ـ حول كيفية الاحتجاج من دون التعدّي على حقوق الآخرين، يعلنُ لنا صوت مذيع القناة الشهير، أنّ شاشته قرّرت وقف التغطية المباشرة، لكلّ «الأحداث التي تشوّه صورة لبنان في العالم». ويحصُرُ تلك الأحداث المسيئة، بإحراق الإطارات، مع لقطات ممّا شهدته الشوارع خلال الفترة القريبة الماضية. تتقاطع تلك اللقطات، مع مشاهد لأعمدة بعلبك، وخليج جونيه، ومرافق سياحيّة أخرى. وعلى وقع هذه المشاهد، يؤكّد لنا الصوت، أنّ مطالب المحتجّين «قد تكون محقّة»، لكنّ القناة لن تساندها، إلا إن تمّ التعبير عنها بشكل «حضاري».

تعمّدتُ الحديث عن مقاطعتي للأخبار التلفزيونيّة في مطلع هذا المقال. إذ إنّني أواظب منذ فترة على قراءة الأخبار عبر مواقع الصحف، أو ما يصلني منها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كان هذا خياري كمشاهد، في مواجهة مئات المحطات التلفزيونية اللبنانيّة والعربية. ولكن، على الرغم من مقاطعتي للكلام المنطوق أو الصورة، بقي الخبر، وبالتالي الصورة، يصلان إليّ بطريقة ما، أثناء تصفحّي للإنترنت. أقول هذا، لأُذكِّر بأنّ «أم. تي. في» كانت من أولى المحطات التي استثمرت موقعها الالكتروني، وعملت في التشبيك الاجتماعي، وحرصت على تصدير الأخبار العاجلة، وبناء تطبيقاتها الخاصة على الهواتف والكومبيوترات اللوحيّة. جعلني كلّ هذا أفكّر: هل تكمن المشكلة في بثّ الصورة المباشرة فقط؟ ألن تعيد المحطّة بثّ تلك الصورة نفسها لاحقاً، في نشرة الأخبار؟ ألن نعرف عن الخبر فور حدوثه عبر «أس. أم. أس.» أو في خبر عاجل على الـ«آي باد»؟ كيف يمكننا أن نفهم قرار «أم. تي. في.» بمقاطعة تغطية حدث ما، بموازاة خيارها المعلن، بوصل خدماتها الثابتة، بتلك المتحرّكة؟ ألا يساهم التعتيم المباشر بـ«تطبيع» هذه الأحداث، من خلال التعاطي معها كأحداث عادية يومية منتظرة، لا تستحقّ التغطية بوصفها استثناءً؟

وهذا يردّنا إلى أسئلة أخرى: هل المشكلة في الصورة بحدّ ذاتها، أم في المبالغة بالنقل المباشر، وفي حبس المشاهدين أمام بثّ الشارع لساعات، من دون تقديم أيّ معلومة جديدة (مثال قناة «الجديد» في بعض تغطياتها)؟ وإن قرّرت «أم. تي. في» مقاطعة الاحتجاج «غير الحضاري»، فلماذا تبقي على برامجها السياسية المباشرة المرشحّة دوماً لاستضافة عراك بالأيدي (أنظر الحلقة الشهيرة لبرنامج «بموضوعية» يوم استضاف وليد عبود فايز شكر ومصطفى علّوش)؟ ماذا عن المواضيع الاجتماعية التي تتمّ تغطيتها بشكل فضائحي على شاشة «أم. تي. في.»؟ ألا تسيء هذه التغطيات ـ بالمنطق نفسه ـ لصورة لبنان (أنظر برنامج «أنت حرّ»)؟ أم إنّ الأمر يتعلّق في الحقيقة، بتصوّر المحطّة الفوقي عن كيفية تصرّف «الإنسان اللبناني»؟

كان الأحرى بـ«أم. تي. في» أو غيرها من المحطات اللبنانية، أن تكفّ أولاً عن تضخيم بعض الأحداث و«الظواهر»، وأن تتفادى التحريض المذهبي أو المناطقي أو الطبقي. وعوضاً عن إلغاء الخبر، كان الأجدى بها تغطيته بالقدر المناسب، أي ذلك القدر الذي تقتضيه الأصول المهنيّة. كلّ الخيارات التحريرية في هذا الإطار مفهومة. أمّا إلغاء الخبر/ الصورة تماماً، لأنّ هذا الخيار يخدم صورة البلد «الأجمل» و«الأغنى» و«الأقوى» (على ما تقوله الأغنية)، فذلك أشبه بالانهماك في تجميل قيحٍ، عوضاً عن معالجته.

تبدو «أم. تي. في»، من خلال قرارها بمقاطعة تغطية الاحتجاجات المطلبيّة وإحراق الإطارات، كأنّها تدّعي القدرة على صناعة تاريخ تلفزيوني رسميّ راهن بالشكل المنمّق الذي اعتادت إنتاجه كتب التاريخ الرسمية. أبعد من ذلك، يبدو القرار رديفاً لحملة وزارة السياحة «ليه شو في بلبنان» (المذهل أنّ المحطة والوزير يختلفان في السياسة ويتفقان على صورة لبنان). وهكذا، وعلى خطى المحطات الإخبارية الرسمية العتيقة في البلدان المحكومة بالأنظمة الحديدية، تقرّر المحطة أن تستقيل من دورها الإخباري، لمصلحة دورها السياحي. تقرِّر أن تنفيَ الخبر، فلا تتصدّق عليه بالتغطية المباشرة. لبنان ليس «هيك»، والإنسان اللبناني ليس «هيك»، والسائح «الغبي» (ربما) في الخارج لن يقرأ الصحف الأجنبية، ولن يشاهد الفضائيات الأخرى بحثاً عن الصورة. لنجد أنفسنا أمام خليط من فهم غريب للإعلام، مضروباً باليقين أنّ المشاهد «يحتاج» الشاشة التلفزيونية، ليبني صورته عن بلد ما.

سألوا سلافوي جيجك مرّةً عن البرقع. وبشكل ينفي الصورة المنمّطة، عازلاً السياسي منه والديني ذاهباً إلى علاقتنا بالوجه، أجاب جيجيك: «الوجه لا يكشف بالضرورة عن الحقيقة. وقد تعاظم ذلك وتفاقم أكثر عندما أصبح بإمكاننا أن نغيّر وجوهنا، ونعيد تصميم ملامحنا ورسمها. وليس من قبيل المصادفة، أن تَستبعد الاتصالاتُ الأكثر حميمية، كالاتصال بين المحلل النفسي وطالب التحليل، اللقاءَ وجهاً لوجه».

وانطلاقاً من نقاش جيجيك، تبدو «أم. تي. في.» وقد قرّرت اختياراً، أن تلبس برقعها، وتعلن عنه. لكن ماذا يعني ذلك فعلاً؟ ببرقع أم من دونه، هل سيمنع هذا الخيار المشاهدين من رؤية الصورة المعتّم عليها؟ وهل سيكفّ المتلقي (الذي صار صحافياً مشاركاًً في تطبيقات «أم. تي. في»!) عن التواصل والبحث عن الخبر والصورة؟ لماذا إذاً، لا نحوّل لبنان إلى مسرح عظيم تتنافس على خشبته ملكات الجمال فقط لا غير، بما يتلاءم مع صورة لبنان المطلوبة؟ ولِمَ لا تحوّل «أم. تي. في» نفسها إلى محطة فئة ثانية تهتم بالمنوّعات، وتعتزل السياسة، خدمةً لـ «صورة لبنان»؟

نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير في 16 تموز 2012