خيالٌ يُنقص، خيالٌ يُضيف

نُشر في April 20, 2011

Share Button

هذه رواية عائلية. تجلب من الذاكرة ما قدرت على استعادته. تقدّم وترجع الشريط، فتردم الفجوات بما تيسّر من صور وأحداث، ثم تبحث عن خط يوصل بين هذه الومضات، وإن بدا هذا الخط متقطعاً أحيـاناً وممتداً أحياناً أخرى. في «مربّى ولبن» (عنوان رئيسي يضاف إليه عنوان فرعي: «كيف أصبحت أمي لبنانية»)، لا تسعى لينا مرهج إلى صنع رواية مصورة كلاسيكية. تهرب من نموذج البداية والعقد والحلول، فتتبع أسلوب القفزات الزمنية من دون أي تتابع زمني. لكنها رغم ذلك، لا تقع في فخ الاسكتشات غير المترابطة، وتحافظ على شخصيات ثابتة تظهر وتختفي. وحدها أم لينا حاضرة دائماً، وإن غابت قليلاً تبقى في الخلفية مسيطرة على التفاصيل. هذه روايتها.

يبدو المكان أساسياً في «مربّى ولبن». رأس بيروت مُصاغ بالألوان على غلاف الكتاب. تُرى فيه المنارة القديمة مجاورةً للبيت الأحمر، والعمارات الزجاجية الجديدة، وأسراب الحمام. رأس بيروت يتابع حضوره في الصفحة الأولى من الرواية وفي الفواصل: هناك سوبرماركت «سميث»، ومكتبة «نوح»، ومكتبة «رأس بيروت» و«شيكو» و«بريد ريبابليك». ومنذ البداية، تشرف أم لينا على كل هذا. نـُترَك معها في صفحة ابتدائية واقفةً في الشرفة. لا نرى وجهها. نرى ظهرها وأجزاء من فستانها. نجدها محدّقة في المنارة القديمة، ثم جالسة، لينتهي الأمر بخربشة غير مفهومة. لكأن الذاكرة تتحضر لرسم وجه الأم بابتسامته وغضبه وحزنه في ما يلي من الصفحات. لكأنّ الصفحة هذه أشبه بجنريك فيلم.

مع المكان، يأتي الطعام تفصيلاً متكرراً في ثنايا الحكاية التي تطرق باب الصدام الثقافي واندماج «الأجانب». صدام رقيق في حالة أم لينا إذ يبدو الطعام اللبناني (فقط؟) أكثر تجلياته المتطرفة. سنجد فاكهة كثيرة مرسومة، ولوزا وعلبة لبنة وكبة وحمصا وفطاير وأطباقا أخرى لطعامٍ لا تعرف أم لينا تحضيره فتستعيض عنه دوماً بالأرز بالكاري في غداءات العائلة.

لا يقتصر الأمر على المكان أو الطعام لرصد هذا «الصدام الثقافي» الذي تغلبت عليه الأم سريعاً. اللغة هنا تفصيل مهم وإن كان لا يُجنَح لتقديمه في إطار الصورة المنمطة عن «الأجنبي» الذي يخطئ في الكلمات المحكية فيبتدع ألفاظاً، وتُقصَر هذه الإشارة على أمثلة قليلة عابرة: كأن تستخدَم مرة الحروف الدالة على طريقة النطق («آلو صباخ الخير.. فيّكتك؟!»)، أو يشار إلى أن الأم تتحدث بلغة غريبة، أو تقحَم الانكليزية في خاتمة جملة حوارية. ثم يستمر نقض الكليشيه عندما تبدأ الأم التفريق بين لفظ ولفظ، فتشدِّد على استخدام لفظ «معوّق» بدلاً من «معاق» لأنها «لا تحب الشفقة».

غير أن ما هو أهم من اللغة، طريقة تطور استقبال الأم للكثير من الأحداث. فمن ردة الفعل الجزعة بدءاً في مرحلة الحرب الأهلية («فوتي لجوّا!!»)، مروراً بالمساهمة في العمل التطوعي والإنساني في قضايا مغرقة في المحلية بالنسبة لـ«أجنبي» وافد حديثاً (الانبهار بمعناه الاستشراقي التقليدي؟)، إلى الراحة الزائدة في استقبال الفجائع المحيطة (الطبيعة «الأجنبية» أم الملل المعتاد من الحرب بعد تواصلها لفترة ليست بقليلة؟). هكذا نرى الأم تنفذ مخططات تليق بأوقات السلم أكثر منها أوقات الحرب، فتحمل أولادها وتدور بهم في رحلة حول العالم في عزّ الحرب الأهلية (تصرّف أمومي فقط؟)، إلى أن نصل إلى تحول بيِّن في نصيحة لطيفة تطلقها لدى مغادرة لينا إلى نيويورك: «ما تتزوجي واحد من هونيك!».

لا تخفي لينا شيئاً. تشرك القارئ في حكاية عائلتها. لا تخفي حتى السبب الكامن وراء عنوان كتابها. تفرد مساحة في الرواية لشرح حكاية اختيارها لهذا العنوان. أمها تأكل اللبن مع المربى، وهي وجدت أن حكاية أمها تماثل المزج بين الحموضة والحلاوة، فهما قليلاً ما يجتمعان. الخيال إذاً هنا مصنوع ومغلف، لكنه أيضاً مفضوح. لا مشكلة عند لينا أن تفصح في مقدمة فصل أنها انقطعت عن كتابة قصتها لشهرين، ونعرف تالياً أنها تعمل بنظام الوحدات المستقلة (الفصول). لا مشكلة لديها في أن تفرد فصلاً كاملاً لنضوب خيالها في فترة معينة وأن تجد في ذلك مدعاة لتتكلم عن خيالها الطفولي في فصل هو من أعذب فصول الكتاب. لا مشكلة في أن تحتفظ بالفواصل وبالعنوان المتكرر مع تعديلات طفيفة (كيف أصبحت أمي لبنانية) تماماً كما وردت الحلقات في مجلة «السمندل». ولا مشكلة أيضاً في أن تجرّب أساليب رسم مختلفة وبخاصةً في الفواصل الروائية أو أن تكثف من استخدام الأسود في رسم اعتناء أمها بالقطة أو في صفحات تحضير الطعام، أو أن تلجأ للرسم المهزوز أو المموّه في فصل زيارات المعالج النفسي.

ترسم لينا تماماً كما تتذكر وكما تشعر الآن، وكما.. تتذكر أنها شعرت! تتكلم عن ذاكرتها الانتقائية. تشير صراحةً أن عملها هذا هو «بحث مبني على الترابط بين ذكريات تأتي من حيث لا تدري حيناً، وتعود إليها بعد حدث أو من فكرة تشغلها، في حين آخر». تطلعنا كيف كانت تستدعي الخيال في صغرها لتضيف إلى المشهد، فيما صارت الآن تستعين به لتمحو ما لا تحب. هكذا تضيف إلى أفكارها فكرة: أمها أميرة صغيرة «جاءت إلى لبنان تاركةً وراءها كوكباً وزهرة». وهكذا تحذف من المشهد تفاصيل، فتلغي هوائيات أسطح المنازل (بل المنازل كاملةً) وتبقي سرب حمام، ثم ترسم كوب ماء نصفه فارغ ونصفه مملوء، وتكتب: «هكذا هو الخيال».

«كيف أصبحت أمي لبنانية» عنوان فرعي متهكِّم يعيدنا بالضرورة إلى تعريف «اللبناني» بالمعنى السوسيولوجي. ويطرح أسئلة من نوع من هو «اللبناني» فعلاً؟ وما هي الجنسية بمعناها المطلق؟ وما الفرق بين الإنسان الذي لم يستقبل إلا ثقافة واحدة بحكم المكان الذي ولد فيه آخر وفد إلى مجتمع وبذل مجهوداً ليندمج فيه؟

في نهاية الكتاب، تحزم لينا أمتعتها في صناديق. تعيد لملمة ما أخرجت من ذاكرتها. لعلها تمحو أو تضيف ما تكره وما تحب بالتفريغ والضبضبة. تعيد تدوير الحامض والحلو. أياً تكن أسباب لينا لخطّ روايتها المصوّرة والنتائج الشخصية التي وصلت إليها في مشروع تفريغ ذاكرتها، فإن مشروعها الشخصي يتعدى شخصانيته ليصبح عاماً. ولعل أهم ما يضيف لقارئه تفصيل أنسنة «الأجنبي» في مواجهة أفكار إجمالية تهيمن حالياً بذرائع مختلفة، ترى في أبلسة «الأجنبي» أساساً وفي أنسنته.. استثناء.

نٌشِرً في شباب السفير في 20 نيسان 2011

2011 04 20