روايـة الأبـواب المواربـة
نُشر في February 17, 2011
لعلّها من المرّات القليلة التي يبدأ فيها فيلم قبل عرضه على الشاشة، وتحديداً في الشريط الدعائي المروِّج له. المقصود هنا هو الشريط الدعائي الخاص بفيلم «رصاصة طائشة» لجورج الهاشم، المرفوع على موقع «يو تيوب»، الذي يبدو أكثر اكتمالاً من الدعاية المبتورة التي تعرضها قنوات التلفزيون ربما لقصر مدتها. في شريط «إنترنت»، نَفَس روائي مبهَم، سرعان ما يثبت نفسه أكثر مع مشاهدة الفيلم. إذ إن الشرائط الدعائية تكون أحياناً أكبر من الأفلام التي تروِّج لها، أو تسير في منحى مغاير، أو ربما تُصنَّع بشكل تجاري لدواعي التسويق.
في حالة «رصاصة طائشة»، الأمر مختلف. الـ«ترايلر» هنا مقدمة ملائمة لما سوف يشاهَد في صالة السينما. إنه يشبه الفيلم تماماً في إيقاعه وموسيقاه وترقّبه. أما صوت المعلِّقة (الممثلة تقلا شمعون)، فيحيل إلى الحكاية قبل الدخول إلى الفيلم. تقول شمعون: «ما أصعبا. أبصر ليش. أبصر من داعي علينا. من هيك نهار ما عدنا شفنا نهار متل الخلق». مشاهِد الفيلم لن يسمع هذا التعليق إلا قرابة نهاية الفيلم. «من هيك نهار»، تقول شمعون. وهذا يحيل إلى سؤال آخر: متى بدأت الحكاية في «رصاصة طائشة»؟
الله، الوطن، العائلة
تجدر الإشارة، بدءاً، إلى أن هذه المقالة قد تفسد في بعض تفاصيلها متعة مشاهدة الفيلم، وإن كان الفيلم يتخطّى الحكاية كعمود أساسي نحو تفاصيل نفسية وبصرية تبني الشخصيات والحكاية. وقبل بداية الأحداث، ينوَّه على الشاشة بمكانها: الضاحية الشمالية لبيروت (أي البيئة المسيحية آنذاك). والزمان: بعدما ظُنَّ أن آخر مخيم فلسطيني في المنطقة قد سقط. من رصاصة الصيد التي تنهي الشريط الدعائي المتحدّث عنه في بداية المقالة، يبدأ الفيلم. بعد مقدمة تري المشاهد سماء زرقاء وأسماء الممثلين تظهر فيها كسحب أو بخار، تتتابع لقطات الفيلم التي تأتي في معظمها مركّزة وقريبة من الوجوه، ولا تريك بانوراما واضحة للمشهد أو لخلفيته. هذا على الأرجح لسبب من سببين: إما ان المخرج يحاول قدر الإمكان حصر تفاصيل المكان في اللقطة، كي لا يظهر ما يناقض تفاصيل فترة السبيعينيات، أو أنه خيار شخصي وفني، يتحوّل بالفعل إيقاعاً بصرياً حتى نهاية الفيلم.
الشخصية الرئيسة في الفيلم نهى (نادين لبكي) تستعد للزواج من شخص لا تحبه (نزيه يوسف). أختها (تقلا شمعون) متسلّطة التفكير، باءت زيجتها الماضية بالفشل. فستان عرس الأخت بقيَ، ويجدر بنهى أن تلبسه لعرسها. أخوها (بديع بو شقرا) متزوّج، وهو متسلّط بدوره. الأب غائب، والأم (هند طاهر) حاضرة وتكتفي بلوم أبنائها دائماً. ولنهى حبيب سابق، فضّت علاقتها به على إثر عراك بين العائلتين، لكنّها لا تزال تسعى إلى أن تراه. للوهلة الأولى، نظنّ أننا أمام حبكة تقليدية، لكن الله/ القدر/ الصدفة يتدخل مرّتين لصوغ الحكاية، ولدفع أحداثها إلى الأمام: المرّة الأولى في حادثة رؤية نهى لمسلّحين يقتلون أسيراً موضوعاً في كيس «جنفيص» في الأحراج، أثناء خروجها مع حبيبها السابق (تتعرّف منهم لاحقاً على أخت عريسها المستقبلي). والمرّة الثانية عند حادثة موت الأم قبيل النهاية. هاتان «الصدفتان» تقسمان الفيلم إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول يقدِّم الشخصيات، وقوامه الترقّب والانتظار، ثم يُكسَر هذا القسم برؤية المسلحين. القسم الثاني يشهد الصراع بين نهى وأفراد عائلتها عندما تقرّر أن تلغي الزفاف. القسم الثالث يبدأ بموت الأم. في القسم الثالث، الذي يبدأ بموسيقى كنائسية، يبدو الصمت سيداً. هناك فقط التعليق الصوتي للأخت المتسلّطة، التي تصبح الشخصية الرئيسة بصوتها، أو على الأقل تضع حداً للحكاية على الشاشة. وإذ تبدو الحكاية تقليدية عند قراءتها منشورة وملخّصة، فإن الكاتب/ المخرج يثبت فعلياً أن العمل وإن لُخِّص بكلمات قليلة، فهذا لا يجعل الملخَّص يعبِّر بالضرورة عن محتوى الفيلم. من هنا يبدو احتمال إفساد الحكاية ضعيفاً، على الرغم من سرد تفاصيلها كافة. فهاشم يتخطّى الحكاية التقليدية ليصنع رواية بصرية، سواءً باستخدام الصورة (بألوانها وضوئها وتفاصيلها، في أمانة مذهلة لفترة السبعينيات)، أو بالإيقاع (الموسيقى والأصوات).
في «رصاصة طائشة»، التفاصيل كلّها محسوبة بدقة. من اللقطة الأولى للعصفور ورصاصة بندقية الصيد، مروراً بالسماء التي تبدو مشمسة أو غائمة أو ضبابية أو معتمة، إلى أعمدة النور التي تتكرّر في زاوية لقطة، إلى لقطات خطى الأقدام المعادة أكثر من مرة، إلى استخدام الإضاءة في أكثر من موضع، كلقطة نهى النائمة في سريرها مع ابنتي أخيها بعد تقيؤها (في اللقطة، كل شيء معتم، ما عدا الوجوه الثلاثة التي تظهر في شكل قطري يصل زواية اللقطة العلوية اليسرى بزاويتها السفلية اليمنى)، وصولاً إلى لقطة جري الكلاب، والكلب الذي ينزف بعد إصابته برصاصة. ليست هذه التفاصيل المصوَّرة وحدها هي التي ترفد المشاهد بإحساس الانتظار والترقّب. فبالإضافة إلى الموسيقى، هناك أيضاً الأصوات التي تصبّ في المنحى نفسه، كصوت العصافير، ورصاصة البندقية، والعواء المتكرّر، وصوت السيارات في الطريق فوق النفق الذي تسلكه نهى عائدةً إلى منزلها، وحفيف الحشيش في الأحراج، وأصوات الورش الصناعية التي تمرّ نهى قربها في الليل، وصوت الموسيقى الكنسية في لقطة العزاء.
لا أدري لمَ استحضرت فيلم «عودة الابن الضال» ليوسف شاهين عند مشاهدتي «رصاصة طائشة». ربما لأن الفيلم المصري يرتكز في قصّته أيضاً على النزاع العائلي الداخلي، ويرمي إسقاطات سياسية واجتماعية. على أنّ الفرق الأساسي بين الفيلمين (فضلاً عن فروقات كثيرة طبعاً) كامنٌ في أن «رصاصة طائشة» يبدو منحازاً بالأساس إلى الحكاية، ولا يظهر فيه صوت صانعه السياسي/ الاجتماعي، بل تجده منصهراً في أصوات الشخصيات. وهذا ربما يشي بقوة السيناريو المكتوب والأهم تنفيذه (كم من سيناريو جيّد كتابةً نُفِّذ برداءة مفرطة على الشاشة). هكذا، لن تجد الشعارات التي اعتيد إطلاقها عند تنفيذ عمل يرتبط بالمحيط (مجتمعاً وسياسة)، بل ترى العائلتين في اجتماعهما تتكلّمان عن الفلسطينيين كما كانت تتكلّم بيئتهما آنذاك. وأيضاً لن تجد التوازن في الآراء، لأن التوازن سيفرط بأساس الحكاية، ويحيلها إلى صوت خارجي دخيل مصطنَع. وحدها زوجة الأخ تبدي رأيها المختلف، لكنه لا يتعدّى كونه رأياً إنسانياً لشخصية لا تفهم في السياسة، تراها منصاعة لجبروت زوجها في أكثر من تصرّف أو لقطة. حتى نهى، التي رمت وحدها سؤال الشكّ في وجه القاتلة (أخت زوجها المستقبلي)، يأتي سؤالها سؤالاً من شخص شاهد الجريمة على بعد أمتار منه، لا سؤال شخص يدلي برأي سياسي.
قوّة السيناريو والتتابع المشهدي وأداء الممثلين (أكثرهم ظهر في مشاهد معدودة لكن قوية، وأقواها مشهد الصدام العائلي)، تجعل المشاهد يبلع بعض المسرحية القليلة (المقصودة؟) في الأداء، كما عندما تستفيض الأخت وحدها في شرح قصتها بعد خروج نهى وأمها من الغرفة، أو عندما تبدأ الشخصيات في الاجتماع العائلي بالكلام، ويُسمعنا كل منهم جملة عن المقاتلين في الطرف الآخر في مشهد يبدو توزيع الأدوار فيه محسوباً. ولعل البلع أو هذه الشفاعة تصل إلى قمتها مع نهاية الفيلم، التي تشهد جنون نهى. إذ إن نهايات كهذه من السهل جداً أن تقع في دائرة الاستسهال الرخيص تنفيذاً، أو كيتشاً على مستوى الفكرة. لكن السيناريو يجعلك بتتابعه تقبل هذه التفاصيل كلّها، بل تجدها مقنعة وغير مقحمة.
الأبواب المواربة
بعد موت الأم، هل تنتهي أحداث القصة؟ هذا سؤال أول. هل تصبح نهى (الباقية من العائلة) هي القصة فقط عند النهاية، على الرغم من كونها الشخصية الأساسية التي تدور حولها الأحداث؟ هذا سؤال ثانٍ. هل كانت البيئة هي القصة وحبكة العرس/ الانهيار مجرّد ذريعة لعرض البيئة؟ والحرب، أينها؟ هل هي في خلفية القصة، أم أن القصة هي في خلفية الحرب؟ لن نعرف. الفيلم حمّال أوجه. لن نعرف مثلاً ما الذي حصل لحبيب نهى عندما لحقه المسلّحون بسيارتهم. لن نراه جالساً لدقيقيتين أمام نهى الفاقدة عقلها في المصحّ ذارفاً الدمع (كما عرفنا من تعليق الأخت)، في تفصيل قد يظنّه بعض المشاهدين الأهم في قراءتهم الحكاية كرثاء لعلاقة حب أفسدتها العائلتان.
ينتهي الشريط الدعائي المرفوع على المواقع بنهى تفتح الباب إثر نداء ابنتي أخيها لها، وانطلاق رصاصة من بندقية صيد. أما الفيلم، فيُختتم بإيصاد الممرضة الراهبة باب الغرفة في وجهنا، إثر تغيّر ملحوظ على محيّا نهى. لقد بكت للمرّة الأولى منذ دخولها المصحّ أمام بطانية ثوب عرسها المنحوس. «الدور عاللي بيبقى»، تقول الأخت المتسلّطة في الشريط الدعائي. وفي هذا الأخير، تفتح نهى الباب على الحكاية. إنها حكاية تبدأ في المنتصف وتنتهي في المنتصف. في الفيلم، يوصَد الباب في وجهنا. لن نعرف على الشاشة ما حدث بعدها، فالحكاية تقوم على الأبواب المواربة، التي نرى عبر شقوقها أشياء ونغفل أخرى لم تلتقطها أعيننا. حتى المسلّحين، نراهم في اللقطات من وجهة نظر نهى المختبئة. لعلّ الحكايات التي نظنّها غير كاملة تشبه الحياة، أو ربما ليس مطلوباً أن نعرف الحكاية الكاملة، هذا إن وجدت أصلاً. نتذكّر فقط نهى في لقطة ثابتة، تتحرّك يمنة ويسرى، تبحث يداها عن شيء تلقيه في وجه أخيها. تصرخ في وجهه، وربما في وجه أناس آخرين خارج الشاشة: «شو إلك عليي؟».
الشريط الدعائي الكامل على موقع «يوتيوب»: http:www.youtube.com/watch?v=L7FSdTpFIWc
نُشِرً في ثقافة في جريدة السفير في 17 شباط 2011