آرتيزانا
نُشر في September 6, 2006
صاحب السحنة السمراء يخرج سريعاً من بيته متجهاً إلى عمله. ينسى إطفاء التلفزيون. جيفارا البديري تتلو رسالة الصباح. يصعد إلى الباص. ينظر إليه السائق نظرةً غريبة ثم يتأمل بطاقته لدقيقة قبل أن يسمح له بالصعود. ما هَمّ. البارحة، وجدوا قنبلة تحت أحد مقاعد محطة الباصات، وسحنته باتت دليل شبهة.
صاحب السحنة السمراء يشعر بكآبة مزمنة، ينتظر انتهاء نهار عمله كي يعود إلى بيته سالماً. يمر في أحد الشوارع فيتذكر مار الياس وذلك المحل، الآرتيزانا ، الذي كان يقف أمام واجهته ويقول: من هنا،
سأشتري لها أول هدية معلنة بعد طوفان الهدايا المجهولة التي وصلت عتبة بيتها. بس لو تقبل .
هي لم تقبل ومحل الآرتيزانا لم يغلق أبوابه كما في نهاية فيلم رومنسي رتيب. ازدانت واجهته ببضائع جديدة واحتلّت عشبة الماريجوانا تطريزات معظم الحقائب المعروضة.
ما هذه الرائحة؟ تبدو كرائحة الآرتيزانا التي صمدت تحت حصار لم ينته. أين هي الآن، يسأل. يهرع لكتابة رسالة الكترونية لصديقتها. تقول له أنها ما زالت هناك مع صاحبها القذر. يعاملها باستخفاف كما دائماً وهي ما زالت تحبه في علاقة تشبه برتابتها الآرتيزانا .
يمسح وجهه براحتيه وينظر إلى انعكاس وجهه على شاشة الكمبيوتر السوداء. لَمْ ينتبه لسحنته من قبل. كان يعيش بين آخرين يشبهونه. هنا بدا نافراً، غريباً. هنا بات وحيداً.
يمر بساحة فيتذكر وسط بيروت. هنا مسرح وتلك سينما. ينتبه إلى أن المسرح والسينما ليسا جزءاً من هوية وسط بيروت الجديدة. لا مسرح ولا سينما هناك. فقط شظايا تظاهرات ثقافية تعبره من حينٍ إلى آخر، كرشوة دفعها مهووسو البناء إلى مرتادي الساحة. السياحة الجديدة تعني جنس وأكل. الجديد ليس ثقافة، ليس خشبياً. براغماتية هي هذه السياحة لدرجة مستفزة. تغيِّر لونها الثقافي تبعاً لتغير الأحداث.
يكمل طريقه ويمر قرب صالون تجميل. يدخل. يحتاج لإعادة تأهيل تخفي شبهة سحنته السمراء.
ينظر إلى المرآة بعد محاولة إعادة التأهيل. لا يعرف نفسه. ينقد العامل مبلغاً ويخرج. يجتاز الشارع إلى محطة الباص. يفاجأ بسمرٍ آخرين فعلوا مثله وأعادوا تأهيل هيآتهم. ينظر إلى أحدهم ويتذكر أنه رأى هذا المظهر قبل خمس دقائق في مرآة ما.
يصل الباص. يصعد إلى الباص. يعيد السائق التفرس في ملامحه. يدخل ويجلس قرب النافذة.
يعيد نبش أوراق زمن مر. يعيد إيهام نفسه أن الفرصة ما زالت سانحة.
يتوقف الباص وتصعد عجوز تأبى أن تتكلم إلا بصوت مرتفع.
لماذا جنّ عند معرفته بقصفٍ طال محيط بيتها الجديد؟ لماذا لا يزال يفكر فيها أساساً؟ ما هذا الهراء الفكري الذي يلفّه هذه الأيام؟
يتوقف الباص ويصعد مراهق يعلن مثليةً صريحةً تؤكدها ملابسه وحركاته.
لماذا يفتقد الصراحة مع أسراره الدفينة؟ لماذا يصر على عدم مشاركتها مع أحد؟
يتوقف الباص ويصعد طفل وامرأة. الطفل يبتسم بسبب وبلا سبب في وجهه.
لماذا ينظر إليه الطفل ويبتسم؟ من أين يأتي بتلك الإبتسامة؟
ما همّ. عليه ان يعالج تداعيات اكتئابٍ بدأ. العلاج، كما تربى عليه، يتمثل بتأجيل الموضوع. وفي حالات متطرفة، يبدو اللجوء إلى البتر الحل الأنجع. لِيَكن صريحاً مع ذاته: لماذا يجلد نفسه إذا كانت الخاتمة المفترضة تقول أنه سيعود إلى هناك ويحظى ب عذراء انتقتها له أمه؟
يصل بيته. ينظر إلى المرآة. يدخل الحمام ويزيل مظهره الجديد كَمَنْ ينتقم من لحظة ضعف.
يستلقي على سريره وحيداً كما دائماً.
في التلفاز، جيفارا البديري كما تركها عند خروجه: تقف ببزتها العسكرية وتعلن بصوتها المخنوق آخر الأخبار من أرض الحلم.
جميلةٌ هي جيفارا البديري وغريبٌ هو صوتها. تماماً كغرابة اسم جيفارا لامرأة.
(لندن)
(نُشِرَ في شباب السفير 6 ايلول 2006)