مشروع ليلى: كلمات تكسر “المورال” العام
نُشر في February 3, 2010
تشير البوصلة المرسومة على الزاوية اليمنى من غلاف الأسطوانة المدمجة الأولى لفريق «مشروع ليلى» إلى أربع جهات: «المورال العام» شمالاً، «الدين العام» جنوباً، «شرقية» في الغرب (!)، و«غربيّة» في الشرق (!).
لعل كسر «المورال» العام هو أكثر ما يميز الأغاني التسع في الألبوم الصادر حديثاً.
يمكن البدء من تصنيف موقف الفريق في السياسة. فإذا ما اتبعنا النظرة الإقصائية التي اعتادها بعض المجتمع اللبناني، نتوهم بدءاً بإمكانية وضع «مشروع ليلى» في خانة أحد الفريقين السياسيين اللذيْن سيطرا على «المورال» العام في البلد لأعوام تلت 2005. يولد هذا الوهم لدى السماع الأول لأغنية «من الطابور». تسبق الأغنية استشهادات إخبارية من قناة «أل.بي.سي»، وترجمة فورية من مترجم قناة «الجزيرة» الشهير بصوته الأشهر، قبل أن تبدأ الموسيقى على عبارة «لبنان هو لبنان» للسيد حسن نصر الله. يستمر هذا الوهم بالتصنيف في برهنة نفسه مع الكلمات الأولى في الأغنية (صارلنا خمسين سنة منحارب الحرب نفسها، ما مننسى، والبلد قاعة انتظار، والطابور واصل على المطار)، لكن الفكرة برمتها تتبخر ما إن نصل إلى «القرف من الدَّيْن» (العام؟ الخاص؟) و«الاشتياق إلى الجوع»، قبل أن تختتم الأغنية على سؤال وجودي شخصي يمكن رميه على مجتمع بأكمله (كأني عارف المكان، وشكلي ملخبط بالزمان؟)
يستمر هذا الكسر لـ«المورال» العام السياسي بالتمظهر في عبارات عدة من أغاني الأسطوانة، وتضيع معه محاولات تصنيف الفريق. في أغنية «عبوة» هناك «شهيد خلف الستارة بدو يهيمن على السوق»، وفي أغنية «رقصة ليلى» هناك «أنا بيني وبينك مليونين» (هل هما مليونا تظاهرتي ساحة الشهداء المتنافستين؟)، وفي الأغنية ذاتها «أنا مني واقف تحت أمرين: أمير وملاك، وسياستيْن. مش نافعة داخل المطربان».
في الأغاني أيضاً، كسرٌ آخر لـ«مورال الألحان والكلمات» المستخدم في الإنتاج الغنائي العربي التجاري. يُتندَّر مثلاً على الطريقة التي صارت تلحَّن بها الأغاني العربية باستحضار عبارة «إم بم بلي لح إم بلي لح» التي كنا نستخدمها صغاراً مع الإيقاعات لننتج أغنية تسخر من الإنتاج الموسيقي المحيط بلا آلات موسيقية. يمتد الأمر أيضاً لنقد مواضيع الأغاني، فيطالب المغني في أغنية «رقصة ليلى» بالغناء عن الباذنجان (غنيلي عن الباتنجان)، ويستمر هذا النقد المبطَّن باستخدام عبارة كـ«دبس بالطحينة» في أغنية «شم الياسمين»!
في سياق ذلك، يستحضَر تراث موسيقي أو لغوي، ويعاد توليفه ودمجه في المنتَج الجديد بمعنى مختلف. العبارة الرحبانية «تك تك تك يا ام سليمان» مثلاً تصبح عبوةً تتكتك في أغنية «عبوة»، وعمي بو مسعود المستدعى من أغنية الأطفال الشهيرة، يصير فقيراً، ويعنِّف زوجته في أغنية ينقلب موضوعها حول الفقر وحلقة العنف.
إعادة الاستحضار هذه ليست جديدة على الفريق، ولا يمكن حصرها بالعبارات المغناة فقط، بل تتعداها إلى ألفاظ، وتفاصيل ربما يتماثل معها ـ أكثر ما يتماثل ـ الجيل الذي نشأ في منتصف ونهاية الثمانينيات، وبداية تسعينيات القرن الماضي.
يمكن لحظ هذه التفاصيل المستعادة حتى قبل سماع الألبوم في صفحة الفريق على موقع «ماي سبايس». تورد الصفحة على يسارها المؤثِّرات التي تجمع أعضاء الفريق. يمكن فرز الكلمات التي وردت في النص وجعلها غير مترابطة لنحصل على الآتي: بوم بوم، راس العبد، كلاشنكوف، القواص، مظاهرات، التلويح بالأعلام، قلب الحمراء، موعود، شتلة الياسمين الأخيرة في المدينة، التلويح بالديسبل، غبي.
قارئ هذا التفاصيل سيتحضر نفسياً، ولن يتفاجأ بعدها بما سيسمعه في أغاني الفريق من كسر لـ«مورال» عام اجتماعي هذه المرة أثبته الزمن والناس، لا المنطق أو الأخلاق.
في هذا السياق، تحضر الأغاني مفتوحة، مستدعيةً فضاءات عدة. في أغنية «فساتين» مثلاً، يشار إلى العلاقات بين شخصين يختلفان في الطائفة (بتتذكري كيف كنتي تحبيني، مع إني مش داخل دينك، بتتذكري كيف كنا هيك؟)، مروراً بالتفاوت الطبقي (إنك رح تتزوجيني بلا فلوس وبلا بيت)، وصولاً للجنس خارج الزواج وموقف الأهل منه (بتتذكري لما إمك شافتني نايم بتختِك، قالتلي إنسى عنِّك)، حتى الوصول إلى ذكر «شي» ثورة لم تحدث (مسكتيلي إيدي ووعدتيني بشي ثورة، كيف نسيتي؟ كيف نسيتيني؟)، وتعقب مباشرة بسخرية من هذه الثورة الموعودة (ومشطتيلي شعري وبعتينيي عالدوام، كيف بتمشطي؟ مشطيني!)
الأغنية الأقرب لـ«فساتين»، في عذوبتها هي «شم الياسمين»، وهي أغنية تنفتح على تفاصيل أكثر حميمية، ويمكن تحليلها في سياق موضوعيْ المثلية والثنائية الجنسية. تبدأ الأغنية بالتذكر: «شم الياسمينة، ودوق الدبس بطحينة، وتذكر، تذكرني»، قبل أن يتضح لنا أن شاباً يخاطب شاباً آخر (يا أخي أوعا تنساني)، ولا يلبث أن يطلب منه العودة أياً كانت التنازلات لـ«يتوّج له قلبه». هو مستعد لـ«طبخ أكلاته»، و«شطف بيته». ثم تتسع الأغنية لفضاء آخر مع معرفتنا أن الشاب المقصود تزوج وصار له أولاد، وأن الشاب الذي يخاطبه مستعد حتى لتدليع أولاده وأن يعمل «ست بيته»، لكن كل هذا غير ممكن بما أن الشاب الأول في بيت والثاني بـ«شي» بيت، والآخر «فلّ».
تتشابه الأغنيتان في نهايتيهما اللتين تنقلبان على بدايتيهما. في «فساتين»، تنقلب «إنك رح تتزوجيني بلا فلوس وبلا بيت» إلى «تتركيني بلا فلوس وبلا بيت». في «شم الياسمين»، يطلب الشاب ممن كان يطالبه في بداية الأغنية بالتذكر بـ«نسيانه» في النهاية، وهو فعل ينافي كل الاستجداء الحميم بين بداية الأغنية ونهايتها.
هل يمكن رد هاتيْن الأغنيتين إلى مؤثرات أخرى لم ترد في صفحة الفريق على «ماي سبايس»؟ هل يمكن القول مثلاً إنّ «فساتين» هي النسخة الجديدة من أغنية «بلا ولاشي» الشهيرة لزياد رحباني؟ تحضر الفكرة تواً، ما إن ترد في الأغنية عبارة «بلا ملايين، بلا فساتين». لا يمكن الجزم طبعاً بالتأثير المباشر لبعض أغنيات على فريق «مشروع ليلى». هذا شيء يثبته وينفيه أعضاء الفريق أنفسهم. لكنَّ حميمية أغنيات كـ«كيفك إنت» و«معرفتي فيك» و«مش قصة هاي» و«بلا ولا شي» وصولاً إلى «كبيرة المزحة هاي» وتجارب ربيع مروة مع «الصابون يقتل» أو ريما خشيش وبعض محاولات تانيا صالح، قد تكون «ربَّت» الجو الموسيقى اللازم لخروج «مشروع ليلى» إلى النور، على اختلاف الأنماط الموسيقية ونضوج التجارب بالطبع.
هذه الحميمية لا تناقض العنف الوارد في بعض أغاني «مشروع ليلى»، بل تمشي متوازيةً معه. هكذا تنقل الأغنيات المشاعر المتناقضة لشخص يعيش في هذا البلد، فيحب في لحظة، ويصطفّ سياسياً في لحظة أخرى، ويشعر بالقرف من كل شيء بعدها. ورغم أنه عنف يتعدى الألفاظ إلى رسم مشاهد كاملة، إلا أنه لا يبدو مزعجاً لسامعه، ربما لأنه لم يأتِ من فراغ.
في أغنية «عبوة» مثلاً، هناك العبوة التي فقعت، وفي نفس الوقت «طلع الأذان». هنا، تظهر سخرية المغني من الصدفة «الربّانية» التي رفعت قتلى العبوة المنفجرة رفعاً سوريالياً ولحظياً إلى السماء، أما هو (المغني) فيبقى أمام «التلفزيان». (تستخدم لفظة «تلفزيان» بدلاً من «تلفزيون» لضبط قافية الأغنية في فكرة تعيد للذهن استخدام «الغسّال» المستخدمة بدلاً من «الغسالة» في أغنية «مربى الدلال» لزياد الرحباني). التلفزيون دائر، ووجه المغني مثل البوم، والبوم يحيط بالمدينة. يسأل المغني كيف يمكن أن يتسيَّس، والكل «موخَّم هون ومتيس إنو دينو أحلى لون». هل هي إشارة للرغبة في العلمنة؟ وما هو المقصود بـ«هون»؟ داخل التلفاز؟ خارجه؟ ماذا يفعل المغنّي؟ هل يتابع الحوارات السياسية «التلفزيانية» التي تلي الانفجار؟ أيذكِّر هذا بالمجتمع الذي تحول متابعاً تلفزيونياً خلال الانفجارات المتفرقة في الأعوام الثلاثة التالية لعام 2005؟
في أغنية «عالحاجز» يخرج الوصف من هذا الروتين التلفزيوني إلى مكان أكثر وسعاً. في الأغنية، يصف المغني رجلاً عند حاجز، كيف يجلس في مكانه «ممسمراً»، كيف يبقي شعره مسرحاً، وكيف يمشي نافخاً صدره. يتساءل المستمع إلى الأغنية: أين تدور الأغنية: خلال الحرب الأهلية، أم الآن؟ من هو هذا الذي يقف عند الحاجز؟ قبضاي شارع حرب، أم عامل في فرقة أمن خاصة تحرس بيت زعيم في سنوات السلم؟ ربما لا فرق. المغني يود فقط أن يصل إلى بيته لأن بيته «هون»، و«مش جاي يفجره»، ولا يتردد في تجاهل رجل الحاجز رغم شتائمه مستعيراً عبارة شهيرة تخطّ على ظهر الشاحنات: «دمعة أمي أغلى منو»، وبما أنه قانع أن عليه أن يرسي تفاهماً ما مع هذا الخارج من النظام / داخل النظام، يوقف كلمات الأغنية للحظات ويغني لرجل الحاجز أغنية وردة: «بتونس بيك.. وإنت معايا!»
من الحاجز إلى مكان آخر. في أغنية «لتْلِتْ»، يحضر الكورنيش مكاناً يتواجد فيه ناس كثيرون يودون فقط أن ينمّوا على بعضهم، ويبدو في سياق الأغنية أن لا شيء تفعله في هذا البلد إلا.. «اللتلتة»! وربما لذلك، تأتي أغنية «خليها ذكرى» الصاخبة بصوت مغنيها العميق، معلنا رغبته في جعل كل ما مرّ.. ذكرى. وفي سبيل هذا النسيان، سيهاجر، ويغير لون شعره، ويخبئ باسبوره، ويحرق شرواله، وربما يشرب قهوة ليصحو من كل هذه القصة (الكذبة؟)، ولن يتوانى أن يتعلم الصينية أو الأرجنتينية ليغير جوه ساخراً من جدوى أن يسمعه من حوله أو أن يحكيه.
في المحصلة، تظهر أغنيات مشروع ليلى جامعةً لنقيضيْن: صخب عنيف وهدوء عذب، وهما أكثر ما يصف يومياتنا التي تستمر.. بعد انتهاء الأغنية.
نًشِرَ في شباب السفير في 3 شباط 2010