ماذا يحدث لأسرارنا على شبكة الإنترنت بعد موتنا؟
نُشر في September 24, 2009
مر عقد على بداية الألفية الثالثة. تحولت اليوميات السرية التي كنا ندونها في مفكراتنا الملونة إلى مدوناتٍ عامة. انتقلت ألبومات الصور الورقية الثقيلة إلى الشاشات أمامنا. وثـَّقنا انطباعاتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية في حساباتنا الشخصية على «فايسبوك». حياتنا على الأرض باتت تتوازى- بل تتواءم- مع حياتنا «الافتراضية» على الشبكة العالمية.
الناس طبَّعت «الافتراضي»، وجعلته ملموساً، جزءاً من حياتها اليومية. زالت دهشة الاستخدام الأوّل. صار في استخدام اللفظ («الافتراضي») شيء من سخرية وتخلف عن اللحاق بتطور الأشياء. الناس سبقت علماء الاجتماع. يركض العلماء ليدرسوا «الظواهر» ولا يفلحون في «كمش» واحدة لتحليلها حتى ينشغلون عنها بأخرى ظهرت عن جديد.
للولادة، الحياة الجديدة نصيب في هذا العالم. كثر يفرحون بأطفال وافدين على عائلاتهم من خلال نشر صورهم على حساباتهم الشخصية على موقع «فايسبوك» مثلاً. يضيفون الصور. يكبر الأطفال على الشاشة، وتُرسم شجرة العائلة للملأ.
ما الذي سيحدث لحساباتنا بعد موتنا، على الإنترنت تحديداً؟
الفكرة مؤرقة. فيها شيء من الرغبة بعلمِ ما في الغيب. هل يتضخم بريدنا مثلاً برسائل الكترونية غير مقروءة؟ أو هل تمتلئ صفحاتنا الخاصة على «فايسبوك» أو «ماي سبايس» بتعليقات شخصية وعبارات دينية تذكِّر المتصفحين بخصالنا الطيبة وتسأل الرحمة لنا؟ ثمّ من يجيب على هذه الرسائل أو التعليقات؟ وماذا لو «غزا» السخام أو spam والأخبار الإعلانية صفحاتنا الخاصة على الشبكة بلا استئذان؟
فلنترك الاعلام والمجتمع الأجنبي قليلاً ولننظر محلياً. سنبدأ من سياسيين توفّوا في الأعوام الماضية. كم صفحة استذكارية أنشئت لهم على «فايسبوك»؟ حسناًً. قد يكون هذا أمراً بديهياً في بلد تورَّث فيه السياسة بدعم من الجماعة. ربما لا يزيد عن كونه وسيلة تقنية إضافية لإثبات الولاء، أو جزءاً من حياة اعتادها كثرٌ، المبايعة الزعامية والمصطلحات المقدسة تفصيل أساسي فيها. فلنترك الشخصيات العامة ولننظر إلى صفحات أشخاص عاديين توفّوا عن قريب.
تبدو الصورة العامة للوهلة الأولى غريبة. تعلِّق إحداهن بعبارة دينية تحت صورة صديقها الميت في صفحته الشخصية على «فايسبوك»، قبل أن تدخل إلى صفحة أخرى لتعلق بآخر نكتة. هذا آخر يفعل المثل على صفحة المتوفى، قبل أن يطلب من صديق أن يؤكد إذا ما كان موعد السينما لهذه الليلة ما زال قائماً. الفرق بين العبارتين وما تستولدهما من شعورين متضاديْن لا يتعدى الدقائق المعدودة. كل شيء مفضوح على «فايسبوك». أهي الحياة التي صارت سريعة، الحزن فيها لا يتعدى الدقائق واللحظات، كما يؤكد وقت التعليقين المعلن على الشاشة؟
حياة بعد الموت
لكن هل نواصل حياتنا بعد موتنا على الشاشة؟ هل نبقى أحياء بعد موتنا على الانترنت، فتتيح لنا الشبكة العالمية بعضاً من خلود لطالما ذكرته القصص الأسطورية؟
يختلف الأمر من موقع الكتروني لآخر. بعض المواقع تلغي الحسابات غير الناشطة من أنظمتها. مواقع أخرى تقوم بتحديد محتويات الصفحة المعلنة. فقط أصدقاء المتوفى، أعضاء شبكته على الموقع، سيستطعيون أن يتركوا عبارات استذكارية أو أن يروا بعض صوره. بعض مواقع الصور الأخرى تحافظ على الصور العامة، ولا يستطيع أحد الوصول إلى الصور ذات المحتوى الخاص التي حددها المستخدم المتوفى.
تقفز فكرة تظنها في بادئ الأمر مستحيلة: ماذا لو أتيحت للعائلة فرصة الحصول على كلمات السر التي تتيح الدخول لحسابات المتوفى على المواقع فتكتشف مثلاً مضمون رسائله الالكترونية؟ وهل يرغب الشخص منا أصلاً في فضح حياته التي لم يعرفها أقرباؤه بعد موته؟ من يرغب بفتح صندوق باندورا بكل أسراره وشروره بعد موته لذويه؟ وفي الطرف الآخر، من يرغب بالتواصل مع الأموات، أو بالتلصص على أسرار الأشخاص بعد موتهم.. «افتراضياً»؟
ليس الأمر ضرباً من الخيال، هناك مواقع على الإنترنت تتيح لك حفظ كلمات السر الخاصة بحسابات بريدك الالكتروني فايسبوك، أو حتى حساباتك على الشبكة، وترسل هذه المعلومات لأناس تحددهم أنت، ما إن.. تموت!
تنفيذ خطوة كهذه يعتمد على رغبة المستخدم المتوفى. أما مهمة الموقع فتبدأ بالتحقق من وجودك. إنه يقوم بما يشبه جس النبض. هل ما زال قلبك ينبض؟ ما زلت تتنفس؟ يرسل لك رسائل الكترونية على وتيرة دورية. عليك أن تجيب على هذه الرسائل، أن تؤكد أنك لا زلت حياً. هذه مرحلة أولى. في مرحلة ثانية، وإذا ما متَّ – لا سمح الله – فإن الموقع سيتصل بأشخاص حددتهم أنت خلال عملية التسجيل. سيسألهم (بطريقة رسمية تعوزها المشاعر؟): هل مات صديقك صاحب الحساب؟ نرجو منك تأكيد هذه المعلومة، حتى نحدد إذا ما كان علينا أن نفصح عن كلمات السر التي أودعها لدينا للأشخاص الذين حددهم في عملية التسجيل.
وصية مؤجلة
مواقع أخرى تلجأ إلى طلب شهادة وفاة ورسالة توكيل كتبها المتوفى يعلن فيها صراحةً رغبته بنقل أسراره على الشبكة العالمية لذويه. هذه مسائل حساسة. مواقع البريد الالكتروني والحسابات الاجتماعية تعمل مدعومة بخطاب إعلاني لا يتوقف عن سريتها وشبكة الأمان التي تعتمدها وتحول دون دخول «الغرباء» إلى حساباتك.
أياً تكن الخطوات المتبعة للإعلان عن كلمات السر، فإن الأمر سيان. هناك وصية مؤجلة ستفتـَح بعد الموت، وأسراراً ستعلن، ومخصصات «الكترونية» ستنتقل للورثة.
هل نتطرف في خيالنا إذاً قلنا إننا سنشهد قريباً بنوداً في وصايانا تسمح لورثتنا بالحصول على كلمات مفاتيح حيواتنا الافتراضية؟ لا. حصل ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا. شركات البريد الالكتروني واجهت أكثر من دعوى قضائية للإفصاح عن مضمون حسابات بعض مستخدميها الذين توفوا، لذويهم. بعض الأقرباء حتى ربحوا هذه الدعاوى! من يدري؟ قد تصل «الظاهرة» إلى هنا قريباً.
لا تنتمي هذه التفاصيل لعالم الرواية. هذا يحدث فعلاً. لا يغرك – عزيزي القارئ – حس السخرية الذي قد يكون وصلك من خلال بعض الجمل في هذه المقالة. الشاشة صارت أرض واقع. ربما علينا مراجعة لفظ «الفضاء السيبيري» الذي دأبنا على استخدامه.
ربما لم يعد للفظ «الافتراضي» أي معنى.
نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير في 24 أيلول 2009