رمضـان التلفـزيـونـي: القصـة الكـاملـة
نُشر في August 31, 2009
متى ولد رمضان التلفزيوني؟ أقصى ما يمكن أن نتذكره نحن العشرينيين: «ألف ليلة وليلة»، وفوازير رمضان التي قدّمتها كل من الفنّانات نيللي وشريهان وفطوطة. وأتى بعدها المسلسل الدرامي من خارج الشهر ليتربع في الموسم التلفزيوني الأقصر. حتى صار رمضان شهر المسلسل الواحد، مثل «ليالي الحلمية» و«رأفت الهجان» وغيرها.
وقد تحول شهر الصوم شهراً تلفزيونياً مصرياً بامتياز. يوجّه فيه سكان بيروت والجبال الهوائيات اللاقطة إلى الجنوب ناحية مصر، أو ينتظرون حنان المحطات المحلية لتستورد بعض المسلسلات المصرية. الحرب اللبنانية لم تكن لتعيق متابعة كهذه. فحلقات «رأفت الهجان» و«ليالي الحلمية» كانت تسجَّل على شرائط فيديو وتؤجَّر للناس إذا ما حصل قطع كهربائي لحظة بث الحلقة.
ثم صعدت المحطات للفضاء. تفشى عرض المسلسلات واختفت الفوازير تدريجياً. بدا الأمر كحفل تسلم وتسليم. انضم الانتاج السوري إلى المعركة الدرامية. خرج السوريون من قوقعة العلاقات الاجتماعية داخل البيوت الموصدة والديكور الرخيص المفضوح على الشاشة. انتظر كل من هيثم حقي ونجدت أنزور أعواماً ليأتي الفضاء فيسوِّق مسلسلاتهم أكثر ويعرف بها الجمهور العربي، وساعد نمط التصوير والإخراج على ذلك. بـِ «خان الحرير» و«إخوة التراب» و«الثريا»، بدأ «الغزو» الفضائي السوري. لاحقاً سينضم باسل الخطيب بتصويره البطيء المتكرر لبعض المشاهد. الناس ستفتـَن بصورة الخوازيق التي علقها الأتراك للمقاومين أو بقصة الفلاح الذي أحب ثريا بنت الاقطاعي الجشع.
في البدء، لم يأبه المصريون بما يحدث على الشط الآخر. تابعوا العمل بكاميراتهم الثلاث وبدأوا التصوير في مدينة الانتاج الإعلامي حتى استنفدوا انحاءها. أما السوريون فمروا بفترة تكلموا فيها كثيراً عن الأتراك والفرنسيين. بالغوا في الاسقاط الفج والمباشر، قبل أن تأتي مرحلة لاحقة: مرحلة الفانتازيا. بدأها أنزور كما كان له السبق في عرض المعارك الحربية بين العرب والأتراك على الشاشة. انتقل ليلبس شخصيات فانتازية ملابس فوسفورية خضراء في الغابات: جوارح وفوارس وكواسر و«قوارض» ورمح النار. شخصيات تقفز في الغابات والصحارى وتتسلق الأشجار بلا أي منطق يحكم المسلسل.
ظل هيثم حقي على الحياد بتفاوت بتعاونه المستمر مع «أوربت». قدما دراما أقرب إلى الجدية. عندما صنع حقي «الأيام المتمردة» (أقل مسلسلاته نجاحاً)، قدم تأريخاً وتوثيقاً لمراحل تاريخية ربما على حساب الحكاية التجارية. لم ينجح المسلسل عربياً بقدر مسلسلاته الأخرى.
أما المسلسل المصري فقد علق في عقدة النجم والتجارة والكمية المفرطة. سيواصل المصريون تقديم دراما اجتماعية مدنية أو صعيدية، وسيعودون إلى إنتاج مسلسلات السير الذاتية، يساعدهم في ذلك القدرة التسويقية العالية له لدى معظم القنوات الفضائية.
ظهر بعدها حاتم علي ولاحقاً الليث حجو والمثنى صبح، ليقدموا صورةً أو مضموناً مختلفاً بعض الشيء. تدريجياً، سيتوقف المصريون عن انتاج المسلسلات التاريخية. باتت صورة التصوير الداخلي في مدينة الانتاج مفضوحة إذا ما قورنت بـ«ثلاثية الأندلس» التاريخية لحاتم علي.
هذا لا يمنع أن المسلسل السوري وجِّه إنتاجياً في بعض أنماطه. المحطات الخليجية هي سوق المسلسل السوري الأكثر حضوراً، والدراما السورية تريد أن تجد لها موطئ قدم لدى المحطات المنتجة، فتنتج ما تريده شركة الانتاج أو قناة العرض. هكذا كما سلسلة الفانتازيا، شاهدنا ذرائع بدوية «شعرية» مصورة كـَ»آخر الفرسان» لأنزور أو «صراع على الرمال» لحاتم علي (كلا المسلسلين من تأليف هاني السعدي كما معظم المسلسلات الفانتازية التي أخرجها أنزور)، أو مسلسلات تجاري الواقع السياسي الراهن (الانتفاضة الثانية) كما في مسلسلي علي وأنزور عن صلاح الدين الأيوبي.
ثم ستعلن هدنة إنتاجية بين السوريين والمصريين بعد أزمة تصريحات صحافية متبادلة. سنشاهد تعاوناً مشتركاً. لكن التعاون المشترك بين مصر وسوريا لن يحول دون المضمون التبسيطي كما في «الملك الفاروق»، فالنص هو أضعف ما في الدراما المصرية حتى مع تدارك الصورة التي ظهر جلياً في رمضان الحالي. يمكن النظر مثلاً إلى التفاوت في ما يكتبه أسامة أنور عكاشة من «ليالي الحلمية» و«أرابيسك» و«زيزنيا» وصولاً إلى «المصراوية» في جزئه الثاني الذي يعرض حالياً. «المصراوية» مثلاً أشبه بمعركة خاسرة في صورته. فهو يظهر مسلسلاً ثمانينياً يفرط مخرجه في «الزوم» بين طوفان المسلسلات المصرية والسورية التي يسعى أن يقترب صانعوها بصورتها إلى السينمائية.
صرنا الآن ـ سورياً ـ في مرحلة الدراما البيئية والعشوائيات مع بعض اختراقات تاريخية «معاصرة»، فيما يبدو أنزور مشغولاً منذ فترة بالصراع العربي الإسرائيلي (رغبة الانتاج؟). ورغم أن الدراما البيئية التي ليست بجديدة، فقد استفحل إنتاجها جدياً في السنوات الأخيرة. ربما لأنها وجدت من يحمل لواءها، والمقصود طبعاً هو المخرج بسام الملا. أعمال كـ«الخوالي» أو «ليالي الصالحية» أو «باب الحارة» بأجزائه ستجتر المواضيع ذاتها: نضال وجواسيس وأعيان رجال كرماء، وشريرون، ونساء عواقر لا تخرج من البيوت تحبل في الحلقات الأخيرة.
أياً كان الهزء بما أنتج. نحن أمام تاريخ. والمشاهد ما زال يتابع فيسقط مسلسلاً ويرفع آخر.
رمضان هذا العام شعاراتي بامتياز، وهو لطالما كان كذلك مصدِّراً شخصيات مثالية في مواجهة الأشرار الذين يلقون عقابهم أو يهربون، ويقدم المواعظ الأخلاقية في سبيل تمجيد الأسرة (على أساس أن رمضان شهر عائلي؟). لكن الدراما السياسية التي تقدَّم هذا العام، (هل هي دراما سياسية فعلاً؟)، تحفل برطن خطابي صار خارج التاريخ مصنوع بخفة غريبة. المثال الأوضح هو مسلسل «ما تخافوش» لنور الشريف. والخطاباتية لا تبدأ بعنوان المسلسل أو بمضمونه ولا تنتهي بخفة صناعته. أو بالرموز التي يحاول بها استمالة جمهور معين: قناة الشعلة، برنامج «ما تخافوش»، الزوجة المحجبة، الادعاء الخطابي الحواري، والمواعظ الأخلاقية التي لا تنتهي، والأجانب المناصرون للقضايا العربية. لا يعني هذا أن أياً من المطروح غير صحيح على حدة، لكن كوكتيل تلفزيونياً كهذا تحكمه الخطابة والخفة في الصنع يحيلنا إلى التفكير بمدى تأثر المنتج المسلسلاتي بالمزاج العام سياسياً أو دينياً وإعادة التدليل عليه كأمر «صحيح» اجتماعياً.
الآن، إلى أين من هنا؟ من يقدر أن يتابع كل هذه القنوات المسلسلاتية المستحدثة ذات العمر القصير الذي ينتهي مع انتهاء الشهر (انظر القنوات المصرية المستحدثة حديثاً)؟ هل يستمر هذا الدفق الرمضاني من المسلسلات في العام المقبل، أم أنّ المجزرة الإعلانية سترسي قواعد جديدة؟ الانتاج المشترك بين الشركات والفنيين والممثلين المصريين والسوريين على اختلاف جنسياتها سمة هذا العام، لكن مضمون ما يقدم يبدو أقل كثيراً من المقدرات الانتاجية وراء هذه المسلسلات. هل يحمل لنا العام المقبل مضموناً أكثر نضجاً؟ أم أن الجميع سكن إلى ستاتيكو ما، وبات يؤمن علناً بصفة التلفزيون الأقدم التي لطالما حاول الكثيرون نفيها: الاستهلاك الآني، لا التأريخ كما في السينما؟
نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير غي 31 آب 2009