الصَّـخــَب
نُشر في February 18, 2009
من هذه الطريق البحرية بدأ كل شيء. محا الدخان الأسود زرقة السماء، وابتلعت الفجوة السوداء بقايا أجساد بشر ومبانٍ وحديد سيارات. من هنا مرّ من مرّ، وحدث ما حدث. سيتردد لاحقاً صخب الصراخ في الخطابات التلفزيونية. هنا سيقف تمثال بعد ثلاثة أعوام على بداية كل شيء. التماثيل تُستَحضر من كتاب تاريخ غير موحّد، وتراقب. تراقبنا.
هنا بعد حين، سيرفع على الأكتاف طفل، وسيجول شاب بين المسلحين على دراجة نارية. وعلى هذا الإسفلت ستمر مدرَّعات جيش، وتدب أصوات أقدام قوى مكافحة شغب. فوق هذه الطريق سيرمي مجهولون قنبلة صوتية، فيفيق رجل ستيني، ويتملكه الأرق، ويدخن ست سجائر في الشرفة حتى طلوع الصباح. ستة فقط، لا خمسا، ولا سبعا. سجِّل هذا عندك لئلا تنسى: «ستا»!
تحت شرفة الرجل القابعة على تخوم المدينة، سيمسك أحدهم علماً بألوان ثلاثة، ويرفع آخر صورة ضابط، ويشتم مناضِل شتيمة عنصرية، ويركض عداؤون، ويتمشّى عاشقان ـ يتمشّيان لا يمشيان! ـ، ويزحف ببطء أفراد عائلة من شارع لآخر. يشاركون في تغير ديموغرافي مستجدّ. سيحمل الهواء الملاصق لرصيف الطريق صدى الأخبار العاجلة، التي تُخفي الناس من الشوارع وتلزمهم البيوت ليوم أو يومين.
من على صخرة، على بعد دقائق من هذه النقطة مشياً، انتحر كثرٌ: طبيب ومهلوس وأخرس وشاب عادي وفتاة، وأناس عاديون، فقط ملّوا الحياة. وبالابتعاد عن المد الصخري المقابل للروشة، إلى الداخل من هذه المدينة الرمادية البشعة معمارياً، لا يتوقفون عن زرع إشارات السير. يموت أحدهم، فيُزرَع تمثال، وتُخترَع مصلبية باسم جديد، وتُزرَع إشارة ضوئية. تكثر الشارات الضوئية ويخفت كل شيء آخر. والضوء البرتقالي الساطع باستمرار يَدلُّك على إشارة ضوئية لا تعمل.
تحت الإشارات إشارة تقول: «نعمل لأجلكم». قرب الجملة، يفتح العامل بالوعة، ثم ينتقل إلى بالوعة هناك، ويتجه بعدها إلى أخرى، ويشتم فينطلق ناحية بالوعة رابعة، ثم إلى خامسة وسادسة، حتى يصل البالوعة التي يبحث عنها، فيدفع بجسمه إلى الأسفل ليصلح العطل. وهناك ـ وعلى نحو فجائي ـ يخفت صخب المدينة.
يهلع العامل، فيستعين براديو ترانزيستور خرج معه من الحرب الأهلية الماضية سالماً. يخرجه من جيب قميصه ويعيد بعضاً من الصوت الهادر فوق إلى تحت، في المجرور. يصلح العامل العطل، وهو يستمع إلى الخبر العاجل من مكتب التحرير، لكنه ـ ورغم الخبر ـ يبقى في الأسفل حتى إصلاح العطل كاملاً بصورة مؤقتة. ولا غضاضة في المؤقت، فهوية البلد نفسها غير ثابتة.
ينظر العامل إلى الأعلى من تحت. يلمح سماءً، وقد يمر طيرٌ يقطع الفضاء باتجاه البحر القريب. يتنهد ثم يصعد متسلقاً السلم، ويستعيد الصخب المعتاد، فيهدأ.
يرتاح. ويمضي ماشياً مخفياً شاربه لئلا يظهر أمام شباب الجامعات غريباً عن البلد، فيلقى نصيبه من الصفعات والركلات، ويبصق بعضاً من دم كان يراه فقط على الشاشة. لا يكاد ينهي فكرته حتى يرى نفسه ماشياً بالقرب من شباب يضربون شخصاً آخر. يقول إنه عراك عادي. الآن يقول ذلك، ومساءً سيعرف أنه مرَّ بقرب خبر غير عادي مطلقاً.
ثم يتوقف للحظة عن التفكير بكل كل ذلك. يفكر فقط بأن عليه حلق شاربه اليوم قبل الغد، لكنه لا ينفِّذ خاطره هذا.. مطلقاً.