مفكّـرة علـنيّة للأفـراد تقودهـا “أنـا” المستخـدم؟
نُشر في February 9, 2009
يبدو الأمر أشبه بالبارحة. هل مرَّت فعلاً خمس سنوات على انطلاق موقع »التواصل / التشبيك الاجتماعي« الأشهر »فايسبوك«؟ أصلاً هل بات التواصل والتشبيك الاجتماعيان بحاجة إلى .. »فايسبوك«؟
لا يخفى على المتابع أن عصراً جديداً يعتمد على البرمجية، بدأ منذ زمن. تحديداً في السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي. أنبالغ إن أسقطنا تغيرات اقتصاد ونمط حياة وبروز نظام عالمي جديد على تحولات البرمجية ونظام عيش الفرد؟
لا نبالغ. تحولات البرمجية دفعت أكثر باتجاه أن يكون المستخدم ـ الفرد هو اللاعب. كل من الأحادية العالمية وسقوط النظريات المجموعية ترافقا مع ترفيع »الأنا« أكثر وتظهيرها. قد يظهر من يقول إن »حب النجاح والظهور الفردي« فطرة أساسية لدى الإنسان. صحيح. لكن هل يمكن الإنكار أن البرمجية ووسائل الإعلام والإعلان الجديد، أخذت تدفع بالصفات هذه أكثر إلى الواجهة؟
في حالة الانترنت، حدث الأمر كما يلي: شبكة الانترنت تظهر على الخارطة، تبعث الحياة في عالم افتراضي، ثم تكبر وتتسع. الفقاعة تبدأ بمواقع مؤسساتية ومواقع لشخصيات عامة ومحركات بحث، ثم تحوي المنتديات والبرامج التخاطبية، وتتجه تدريجياً باتجاه المستخدم العادي الذي لا يملك المعرفة التقنية العميقة. يصبح لكل مستخدم مدوّنة وحساب شخصي على بعض المواقع التواصلية، ويمكن له التخاطب بالصورة والصوت مع غيره. الأمر برمته يشبه البدء باكتشاف ما، ثم التخصص فيه أكثر بمرور الوقت واستنفاد كل ما باستطاعته تقديمه.
هكذا، وبمرور الزمن تنتصر الفردية على الإيمان بالمجموع، بالفكرة التي تظهر الفرد فرداً لا جزءاً من مجموعة. يمكن الحديث هنا عن سطوة تلفزيون الواقع نفسها وانسحابها على معظم أطباق الوجبات الإعلامية، التي صارت بالفعل أسلوب حياة. لتلفزيون الواقع هذا توأمه الشبيه في عالم البرمجيات المتوجهة لعامة الشعب: مرحباً »فايسبوك«!
على أنّ هذا لا يعني انتصاراً ساحقاً للفردية على حساب الفكر المجموعي، فكثر من المشاركين في »ظاهرة« »فايسبوك« ما زالوا يؤمنون بسطوة الفكرة ـ المجموع، متسلحين بإضافة صفات الأحقية والصواب والتقديس على هذه الفكرة. لكنهم مجرد استخدامهم لفايسبوك على النحو المعلن، يجعلهم يمظهرون فرديتهم أكثر. يبدو هذا جلياً من الخليط الغريب من المجموعات التي تجدها عند أي مستخدم »فايسبوكي« عادي، والأمر بكليته سيحتاج إلى دراسات اجتماعية عديدة حول هذه الطفرة التي تجتاح المجتمعات.
لكن ما الذي أخرج »فايسبوك« إلى سطح التداول الإعلامي ودفع به إلى الواجهة؟ هنا، تبدو قصة »فايسبوك« شبيهة بـ»غوغل«. قبل »غوغل« كان هناك محركات بحث. وقبل »فايسبوك«، كان هناك مواقع اجتماعية تواصلية. ما الجديد إذاً؟ الفرق بين الموقعين وشبيههما من المواقع أن »فايسبوك« (كما »غوغل«) تخصص أكثر من غيره ورفد مستخدميه بمحتوى أكثر فائدةً وليونة. مستخدم »فايسبوك« يبني شبكته الاجتماعية، يعدل من مزاجاته، يضع آراءه، ويعلن عن الأحداث والنشاطات التي سيشارك فيها والتي قد يكون بعضها حقيقياً سيحدث فعلاً على أرض الواقع، وبعـــضها قد يكون من ضـــرب الخيال ويقع في صلب الحـــياة الافتراضية للمســــتخدم. المشاريع الفنية والنشاطات التثقيفية والنضالية، ونوادي محـــبي الفنانين والشخصيات حاضرة أيضاً على »فايســـبوك«. كل ما في الحياة هنا. أي شخـــص يستطـــيع أن ينشئ مجموعة مهما كان مضمونها سخيفاً ومزاجياً.
هكذا، تحوّل »فايسبوك« مفكّرةً معلنة يتداولها الناس. بات أسلوب حياة، أحببنا ذلك أم لم نحب. ربما الحياة نفسها فرضت وسيلة تواصــل من مثال البرمجيات التواصلية هذه. لا تنتهي الأسباب التــــي أوجبت هذا النجاح. يمكننا أن نبدأ من سرعة الحـــــياة وصخبها وضيق الوقت، وألا ننتهي عند الثمن الباهظ والبطء الذي تتسم به أساليب تواصــل باتت بـــدائية أو ما زالت مكلفة (الخلوي، البريد العادي والسريع).
هذه المفكرة العلنية تقدِّس الأنا (فرداً أو مجموعة) علناً! نأخذ لبنان مثالاً. خلال مرحلة الشحن المذهبي المستمرة منذ أعوام في البلد، ظهر »فايسبوك« أصدق من المحطات التلفزيونية وآراء السياسيين المعلنة المائعة، فيما الكلام المعتَّم عليه غير. على الموقع، كان بالإمكان رؤية القاعدة الشعبية لهؤلاء السياسيين تعبر عن نفسها بكل صراحة. تتأزم على الشاشة، فتمتلئ صفحة شبكة لبنان على الموقع بالشتائم المتبادلة بين الفرقاء السياسيين والطوائف (قل المذاهب!). قد ينبري البعض ليعلن أن كل ذلك تعابير غير رسمية. لكن من قال إن البيانات الرسمية كانت صادقة يوماً؟
الفورة مرشّحة للاستمرار باتجاه استقرار ما. فكثيرون بدأوا »يطبِّعون« علاقتهم مع »فايسبوك«. وقريباً، سنتوقف عن الحديث عنه كظاهرة »غرائبية« فاجأتنا على حين غرّة! وسيبدو انطلاقنا من تحليل نجاح الموقع إلى تحليل تحولات المجتمع. لماذا؟ لأنه بمرور الوقت سيصبح كل هذا »طبيعياً«. ونحن، عندها، سنكون قد انشغلنا عنه بتحليل ظاهرة »غرائبية« أخرى!
نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير في 9 شباط 2009