عكس الفردية، عكس التدوين؟
نُشر في November 21, 2008
ما الذي يدفع شخصاً ما إلى فتح مدوّنة على موقع إخباري يتعاطى السياسة عوضاً عن المواقع المتخصصة لاستضافة المدونات؟ سبب أساسي: إعجابه بالموقع الإخباري ذاته وبالتوجه السياسي والثقافي الذي يروِّج له الموقع. فإلى أي حد، إذاً، تتوافق طبيعة التدوين الفردية مع استضافة المواقع الإخبارية (التابعة للإعلام الرئيسي main stream media) للمدونات؟
لنأخذ حالة من الممكن جداً حدوثها: مدون معارض قام صباحاً بمزاج عكر، شاهد على التلفزيون أفراد قوات الأمن المركزي ينهالون بالهراوات على متظاهرين في الشارع. سينهض المدون ويتوجه تواً إلى كمبيوتره، ويكتب تدوينة طويلة في مدونته الخاصة يشتم فيها طريقة تغطية الإعلام، وقوى الأمن، والمخابرات، والنظام الحاكم.فلنتخيل الشخص ذاته مدوِّناً في موقع إخباري: هل سيسمح الموقع الإخباري بتدوينة كهذه؟تُدرج شروط وقوانين النشر في »مدونات إيلاف« التابع للموقع الإخباري »إيلاف«، مثلاً، ما يلي: إنَّ التسجيل في القسم يخضع »للموافقة المسبقة من قبل ادارة المدونات« (رقابة مسبقة؟)، كما يكون بـ»الأسماء الصريحة وباسم ثنائي على الأقل« (لا يمكنك التخفي خلف اسم مستعار!)، وعليه أن »يراعي الآداب العامة« فلا يجب استخدام »كلام بذيء أو شتائم«، (أنظر مثال المدوّن السابق)، أو استخدام »مواضيع جنسية إباحية« (لا يعرّف الموقع معنى »الإباحية«).
وماذا لو خالف المشترك أياً من الشروط المدرجة؟ يقول الموقع إنَّ لأسرة الموقع »كامل الصلاحية في حذف أو نقل أو إغلاق المدوّنة والحق في اتخاذ الإجراء الذي تراه مناسباً دون الرجوع المسبق للمدون«؛ ومن تلك الإجراءات »توجيه إنذار، أو حذف موضوع، أو منع المدوّن من المشاركة في المدوّنات بشكل نهائي«.
علينا هنا أن نكون عادلين فنورد أيضاً أنَّ سياسة المحتوى على »بلوغر« (الموقع الأشهر المختص باستضافة المدونات) تحوي شيئاً عن خطاب الكراهية والإباحية والمحتويات العنفية، لكن »بلوغر« يعرِّف هذه المصطلحات فلا يتركها حمّالة أوجه، فيحدد للإباحية مستويات، ولا يلجأ للحذف كخيار أول، بل يتيح جعل المحتوى خاصاً في حالات كهذه. أما فيما يخص اللغة المستخدمة، فليس في شروط »بلوغر« ما يتطرق لهذه النقطة، إلا فيما يخص تحميل المدوّن المسؤولية الكاملة لتبعات ما ينشره.يتبع »بلوغر« طريقة خاصة للتبليغ عن أيّ محتوى يخالف مضمون شروطه، فينتظر تقارير من أكثر من قارئ قبل إنذار صاحب المدونة (لا الحذف الفوري). ورغم أنّ هذه القوانين لا تطبَّق دائماً، خاصةً مع عدد المدونات الهائل المشترك في »بلوغر«، والذي يزداد اطّراداً، فهي تبقى عرضةً للانتقاد والاحتجاج الشديدين المستمريْن من المدوّنين، وقد تكون من الأسباب الأساسية التي جعلت المدونين ينزحون إلى مواقع متخصصة أخرى، أو ينشئوا مدوناتهم الخاصة بتقنيات مفتوحة المصدر.يمكن طبعاً فهم مسألة أن الموقع الإخباري لا يريد أن يتحمل تبعات قانونية وأخلاقية لكتابات مدون غاضب، لكن هذه الرقابة تحيلنا للسؤال التالي: هل مدونات المواقع الإخبارية هي تدوين فعلي، أم رسائل قرّاء/مراسلين مستقبليين محتملين؟
فلننتقل إلى مثال أكثر وضوحاً عن فكرة »المراسلة التدوينية« هذه: »الجزيرة توك«. الموقع الذي حاز سابقاً على جائزة »بوبز« عن فئة أفضل مدونة عربية تمنحها »دويتشه فيله«، أسسه شباب من داخل قناة »الجزيرة« وخارجها ويعتمد على شبكة »مراسلين« حول العالم. وعلى الرغم من أنه يعلن عن نفسه بأنه »مؤسسة شبابية غير ربحية لا تتبع أي دولة أو حزب«، ونتاج تطوعي من شباب عديدين، يمكن القول إنَّ الموقع بطريقة أو بأخرى يظهر ابناً لمشروع »الجزيرة« الإعلامي أو على الأقل متأثراً به، حتى أنه يستخدم لوغو »الجزيرة« ذاته في اللوغو الخاص به.الفارق الأساسي بين »بلوغر« مثلاً و»الجزيرة توك« أو مدونات »إيلاف«، أنَّ »بلوغر« لا يقدم رسالة إعلامية بحد ذاته، بعكس المواقع الإخبارية. هو فقط موقع مخصص لاستضافة المدونات لا »يوجّه« بقصد أم بغير قصد مدونيه. أما مدونات المواقع الإخبارية فهي »ملحقة« بالمواقع ذاتها، ملحقة بالإعلام الرئيسي وليست موازية له.من يدوِّن في المواقع الإخبارية يدخل بتوجه منظَّم ومرتّب. هو يكتب »مراسلاً« الموقع الإخباري باسمه الحقيقي، لذا يفعل كل شيء بحساب، بعيداً عن المنحى الفوضوي والعفوي الذي يحكم التدوين بالأساس.
»الجزيرة توك« ومدونات »إيلاف« لا يخوضان التجربة وحدهما. الجرائد والمواقع الإخبارية العالمية قامت بالتجربة منذ زمن (نيويورك تايمز، ذي اندبندنت، إلخ…). وفي مجال المواقع الإلكترونية للمحطات التلفزيونية، هناك أكثر من مثال كـَ »سي أن أن« وَ »بي بي سي«… هذه كلها أمثلة على تجارب مشابهة تتفاوت فيها المضامين والشروط المسبقة للتسجيل وطرق التنفيذ.
هكذا، ومع تكاثر استخدام ألفاظ مثل »إعلام بديل« و»إعلام موازٍ« و»صحافة شعبية« و»مجتمع مدونات« وخلافه من الألفاظ، تأتي مدونات المواقع والجرائد الإخبارية الإلكترونية التابعة للإعلام الرئيسي لتتلقف المدونات وتضمها تحت جناحها كأطفال يحتاجون إلى توجيه وعاطفة أبوية، لتخرج بعدها بشيء هجين أبعد ما يكون عن فكرة التدوين الأصلية وأقرب إلى فكرة المراسلة. إنه أمر أشبه بتدريب لأناس يطمحون بالكتابة للموقع الإخباري في الأساس، مما ينتج كتابات تتمظهر فيها بقوة نظرة الإبن الحنون… لأبيه المثال!
نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير في 21 تشرين الثاني 2008