“كبسلة” تاريخ مشذّب وموجّه لـ “زبائن”.. قدامى
نُشر في November 13, 2008
إعلان حزبي آخر ينتشر على الطرقات. هذه المرة لحزب الكتائب. لوحات دعائية مزروعة على جانبي الطرقات. اللوحات الأساسية أربع:
اللوحة الأولى: “1943 . للانتداب حطينا نقطة على السطر”.
للوهلة الاولى، يُدهَش المرء لهذا الانتقاء الذي لا يصرف في الكلام اليومي للساسة الراهنين (لفظ الانتداب). يظن المرء أنه إزاء إعلان حزبي مختلف، يستعيد إنجازاً وطنياً جامعاً بغض النظر عن فردية الإنجاز (حطينا).
بهذه الاستعادة التاريخية غير “المحروقة”، يخمِن الناظر أنه سيكون أمام انتقاءات مختلفة عن المعهود، لكن اللوحة الثانية من سلسلة الإعلانات تعيد الأمور إلى نصابها المعهود: “1958. للتبعية حطينا نقطة على السطر”.
اختفت الدهشة الأولى. حلت مكانها دهشة من نوع آخر.
“وضعنا” حداً “لـلتبعيين”. لا يفسِّر الإعلان من هم التبعيون، لكن العارف بالتاريخ اللبناني يدري أن حزب الكتائب يقصد ـ ببساطة ـ غرماءه السياسيين في تلك الفترة (1958). نحن هنا إزاء ترويج ـ ليس بجديد ـ لفكرة فرز المواطنين بين تبعيين وغير تبعيين، إزاء استعادة من زمن الحاضر لوسم أحداث زمن بعيد (أم تراها النظرة “الفرزية” هذه هيَ هيَ لم تتغير؟). إننا إزاء استعادة لثنائية مدرسية تبسيطية. والأهم، إننا بصدد إعادة كتابة غريبة للتاريخ فيها إقصاء تام لعبارة صائب سلام الرسمية الشهيرة والمعتمدة: “لا غالب ولا مغلوب”.
على خلفية صورة للنار المندلعة من فندق “الهوليداي إن” مأخوذة من المعركة الشهيرة، تظهر الجملة التالية على اللوحة الإعلانية الثالثة: “1976. للتوطين حطينا نقطة على السطر”.
إذاً، الحرب اللبنانية صارت حصراً “إنجاز” منع التوطين. حسناً. فلنسلِّم بهذا الوسم المختصر والتبسيطي للحرب اللبنانية. أين “إنجاز” ما بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان؟ ألم تستمر الحرب والمعارك الداخلية بين الأطراف اللبنانية لفترة ليست بقليلة؟ لمن وضعت الكتائب “نقطة على السطر” في هذه الفترة؟
لا تصل اللوحة الثالثة حتى لمرحلة الاعتراف الشكلي والكلامي بممارسات الحرب، ولا تقرب باب النقد الذاتي الذي قام به البعض قبل أن يتابعوا حياتهم السياسية، كأن شيئاً لم يكن طيلة خمسة عشر عاماً. على العكس. فالدور الذي اضطلع به حزب الكتائب في الحرب بحسب الإعلان هو “إنجاز”، ونقطة على السطر. والدور كان محاربة التوطين. باختصار، يلمِّح الإعلان للناظر إليه ما يلي: الحرب اللبنانية فقط دارت حول التوطين، ولم يكن لها أبعاد أخرى.
بعد ذلك، وبحسب الترتيب الزمني، تتخطى الإعلانات فترة المعارك الداخلية بين الفصائل اللبنانية (والتي شارك فيها حزب الكتائب). هذه تفاصيل لا تليق ببروباغندا إعلان حزبي.
هكذا تصل بنا الحملة الإعلانية إلى لوحة رابعة: “2005. للاحتلال حطينا نقطة على السطر”.
هنا، يحتار الناظر للإعلان. فإذا ما تغاضينا عن التوصيف لمرحلة ما بعد الطائف (الاحتلال)، ولو صحّ منطق الإعلان، كيف يستمرّ حزب الكتائب بجعل “إنجازاته” هذه فرديةً فيما هو جزء من تيار متعدد القوى (14 آذار) يعلن عن هذه الإنجازات بوصفها انجازات لجسم سياسي موحد ولا يزال متواجداً؟
غالب الظن أن الكتائب ستلجأ إلى الرد بأن الانجاز الفردي لا يلغي بالضرورة الإنجاز الجماعي. لكن سلسلة الإعلانات الأربعة التي تغطي ردحاً غير قصير من الزمن توحي لمتابعها بأن حزب الكتائب كتب تاريخ لبنان.. وحيداً.
إعلان أخير أشبه بخلاصة استنكارية: “2008. شبعنا حروب. شبعنا هجرة. ما حلنا نطور النظام؟”.
بعد الإعلانات الأربعة، تأتي الخاتمة الاستنكارية ككيتش سياسي سوريالي، خاصةً بعد المفاخرة التي طغت في اللوحات السابقة. إنها تشيع جواً من الكآبة وعدم الرضى عما آلت إليه الأمور، لتبدو خارجة فعلاً عن سياق الإعلانات الأربعة الأخرى. إنها تدعي شحذ الهمة فتفشل إذا وضعت بجانب الإنجازات المنتقاة أعلاه. إنجازات سابقة هي أكثر ما تناقض احتمال “تطوير النظام”.
إعلان الكتائب ليس التجربة الأولى للإعلان الحزبي في الفترة الأخيرة، لكن الطرق التي ظهرت فيها هذه المجموعة من الإعلانات لأحزاب وتيارات مختلفة صارت تسمح بالمقارنة التالية:
الإعلان التجاري يسوِّق لسلعة. يستميل الزبون بالترغيب والفكرة الحلوة، وأحياناً الصدمة المثيرة للجدل. أما الإعلان الحزبي فلا يتخطى الخطابة إلى مستويات إبداعية أخرى، بل يرفع إصبعاً في وجه الناظر إليه. هو يثبت ما هو مثبت أصلاً في ذهن صانعيه، والأرجح أنه لا يؤثر في ذهن الناظر/ المنتسب الحزبي الجديد المحتمَل. إنه ينتقي منتسبيه القدامى أو الحاليين، فيتواجد في مناطق ويغيب عن أخرى من الصعب في الفرز الديموغرافي الحالي أن يجد فيها مشاريع منتسبين جدد. هو فقط يذكر أعضاءه والمتعاطفين معه علهم نسوا “الإنجازات”.
الإعلان الحزبي جزء من منظومة تسويقية كاملة. هو عام، يحتفي بالإنجاز. يتخطى شياطين التفاصيل، ويغيِّب المفاصل السياسية الجدلية. وإن أراد عدم تغييبها، أخذها، وصدَّرها من جديد مع بعض الرتوش كـ”إنجاز” حزبي آخر.
الإعلان الحزبي تكثيف وانتقاء لتاريخ يخرج في المحصلة النهائية نظيفاً. هو كبسلة لتاريخ سبق أن شذَّبه مصدّره من أجل “زبون”.. قديم، ومعروف!
نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير في 13 تشرين الثاني 2008