رقابة تحمّل الأمور أكثر مما تحتمل

نُشر في September 11, 2008

Share Button

2008 08 11

تحت عنوان “إعلان كريم عبد العزيز يسخر من الهجان”، نشرت جريدة “اليوم السابع” المصرية (عدد 5 أيلول 2008) مقالاً تنتقد فيه إعلان المشروب الغازي الذي يشارك فيه الممثل كريم عبد العزيز. في الإعلان يقول الرجل (ممثلاً دور محسن ممتاز في مسلسل “رأفت الهجان”) لكريم: “الكوكا أمانة في رقبتك يا رأفت”، على خلفية موسيقى المسلسل، في استعادة للجملة الشهيرة التي تلفّظ بها الممثل محمود عبد العزيز، لكن مع استبدال كلمة “مصر” في العبارة القديمة بـ”الكوكا”. يستشهد المقال بأقوال ناقدتين (خيرية البشلاوي وماجدة موريس) اللتين تتحدثان في سياق مشابه عن الإعلان بوصفه “عبثاً بتاريخ بطل ضحّى من أجل مصر”. في الفترة ذاتها، تلقى الناقد طارق الشناوي رسائل الكترونية غاضبة من الإعلان، ما دفعه للكتابة تحت عنوان “هجان بالكوكاكولا!” (الدستور المصرية، عدد 6 أيلول 2008) ناقلاً آراءهم، لكن مع معارضته إياها مستشهداً بأمثلة “تهكمية” سابقة (مثالا “شكوكو” و”محمد سعد”).
لا يبدو الإعلان جذاباً للتــحليل بقدر الانتــقادات له. في النهاية، هو إعلان يبتــغي تسويق سلعة ما؛ وهــو يعتــمد في ســبيل تحـقيق ذلك الأســلوب الذي يــراه صانــعوه أكــثر ملاءمـــة.يشجع خطاب الانتقاد أعلاه، والذي يحمّل الأمور ما لا تحتمل، على إضفاء محاذير إضافية على المقاربات المستخدمة في الأعمال الفنية، على اختلاف أنماطها. وتكمن الخطورة في كون هذه المحاذير الإضافية تأتي من الصحافة تحديداً، فبدلا من أن تحاول هذه الأخيرة الضغط باتجاه توسيع هامش الحرية مما ينعكس بالضرورة عليها، تسعى إلى فرض قيود أكثر على الأعمال الفنية. والسبب وراء كل ذلك؟ تهكم ورد في إعلان عن مسلسل “وطني”!

لا تتوقف الأمثلة عند رقابة الصحافة، فالملاحقة الأمنية الأكثر غرابة كانت لطاقم عمل فيلم الهواة »رجال لا تعرف المستحيل« الذي انتشر على الإنترنت وبين أوســاط الشباب، والفيلم كوميديا من نوع المحــاكاة التهكمية (Parody)، على الفيلم التلفزيوني الشــهير المنتَج حكوميــاً “الطريق إلى إيلات”. حينها تم اســتدعاء العــاملين في الفيلم للتحقيق معهم قبل أن يطلق سراحهم!

لا يمكن فهم الخطاب الإعلامي والأمني أعلاه، إلا كجزء من التغيرات الدينية والاجتماعية التي طرأت تدريجياً على المجتمع المصري في العقدين الماضيين، وهي تغيرات تُرجمت في تيار من الأعمال: فالسينما تحولت نظيفة، والنجمات صُنِّفْنَ  بين نجمات “عائلات” ونجمات “إغراء”، والشخصية الأساسية مثالية أو سيئة تلقى جزاءها نهاية الفيلم أو في الحلقات الأخيرة من المسلسل، أما فساد قوى الأمن فدائماً ما يُشدّد على كونه ظاهرة فردية تُعاقب من النظام الأمني نفسه داخل العمل الفني. وعلى المنوال التأطيري نفسه، تظهر معظم النسوة الأمهات مرتديات الحجاب، ومن يلبس من الفتيات ملابس “مكشوفة” ـ بالمعيار المستجد للمجتمع المصري ـ هي إما شخصيات ضالّة أو تُنبذ من قبل الجماهير. وهذا التأطير لا يمس الأخلاقيات فحسب، بل هناك تأطيرات مضادة سوَّقت لها المؤسسات الانتاجية الرســمية، كمــثال الطرح الساذج المعاد والسقيم لقضية المتــطرفين المــسلمين، لنجد انفسنا في النهاية أمام خلطة غرائبيــة تعيد إنتاج نفسها، حتى باتت تحدد ملامح دراما بأكملها.يصح في هذا المجال الاطلاع على كتاب “سينما وسياسة” للناقد علي أبو شادي الصادر عن “دار المدى” (يرأس علي أبو شادي الرقابة على المصنفات الفنية!)، وفيه يورد شادي أمثلة على أنماط التعامل بين السلطة السياسية وصنّاع الأفلام، ونماذج عن طلبات رقابية بالحذف طاولت الأفلام المصرية. كما يورد فصلاً كاملاً تحت عنوان “شمّاعة سمعة مصر”، مشيراً فيه إلى التهمة الأشهر المتعارف عليها للأعمال الفنية: “تشويه سمعة مصر”.
ولـ”تشويه سمعة مصر” أخوات عربيات ومصريات شهيرات، فهناك مثلاً “إثارة النعرات الطائفية” و”تعريض الوحدة الوطنية للخطر”، و”إضعاف الشعور القومي”. وأسوأ ما في هذه التهم، أنها فضفاضة، ومنها ما اعتُمِد أساساً لمواد قانونية عدة في بلدان عربية مختلفة، مما يحيلنا في النهاية إلى الســؤال الأهم: من يملك سلطة إضفاء صفة “الخطيئة الوطنية” على عمل فني ووسمه بأكمله انطلاقاً من قوانين وعبارات تستدعي حقائق مطلقة أقل ما يقال فيها أنها… آراء شخصية؟

نُشِرَ في صوت وصورة بجريدة السفير في 9 أيلول 2008