تشكرك الأشياء لأنّك وضّبتَها في قصيدة!

نُشر في August 13, 2008

Share Button

2008 08 13

بيروت السبعينيات: القاعة ممتلئة. أبو عمار في الصف الأول فيما الشباب يملأون القاعة. الفتيان ينتظرون نضالاً وقصيدة، الفتيات ينتظرن نضالاً وقصيدة و… عينيْن خضراويْن. هذه سنوات نضال، والنضال بِكرٌ لم يثلوَّث بعد. يدخل صاحب العينيْن الخضراويْن القاعة. تلتهب الأكف بالتصفيق. يشدو بقصيدة، بقصيدتين، بأكثر. حب. نضال. وطن ضائع. يحزن، يمزح، يكتشف فجأة كوفية الرئيس في المقدمة، فيعتذر عن عدم ترحيب مسبق، ويعتذر عن ملل قد تسببه أي قصيدة لاحقة مرسلاً نكتة في بيت قصيدة، لتصفق بعدها الأكف.

في الخارج، في قبو مصنوع من أكياس رمل، يمسِّد فدائي سلاحه. ينظفه. يسمع القصيدة من المذياع، ملحوقةً بالأغنية. وتدخل بعدها حبيبته، بشعر قصير، بأنوثة أقل، بملابس عسكرية داكنة لكن من دون أن تحمل سلاحاً. يحتضنها ويستندان إلى أكياس الرمل. يستمعان إلى القصيدة سوياً. ينحنيان لقـنبلة، ثم يعودان فيقفان، وقد يقتلان، وقد يعيشان، لكن المذياع سيان في الحالتين: يبقى صامداً لتستمر القصيدة!

***

فلسطين، العام الماضي: حاول فتى شراء تذاكر لأمسية محمود الشعرية المقامة في حيفا، ولم يفلح في مسعاه. التذاكر بيعت في وقت قصير للغاية.

بعد محاولة فاشلة لابتياع التذاكر، يصمَّم الفتى الثلاثيني تصميماً تتصدره شتيمة للمنظمين ولدرويش، ثمّ يضعه على الانترنت. للوهلة الأولى، تبدو الشتيمة استتباعاً للحملة المناهضة لقدوم درويش إلى حيفا، وما إن ينزل مستخدم المؤشر حتى يظهر سطر تالٍ  في التصميم: “ليش ما في تذاكر؟”.

***

النبيذ والقهوة العربية والشاي والصعتر والبرتقال والتفاح، مطر الشتاء وريح الخريف وبحر الصيف، الأفق ـ محض أفق أو أفق المرحلة – والفجر والأحلام، النمل والعصافير والكرمل والجليل والزنابق، العشب والتراب وصهيل الخيول والحمام، ريتا التي ما عادت صغيرة ويوسف المكتئب وأحمد المتنازع على عروبته، البنادق والدم واللحم والهوية وحقائب السفر، الرصاصة بين عشقيْن والعشق بين رصاصتيْن، التوابيت والنعوش وجدران الزنازين وشبابيك القضبان الحديدية والسلاسل، الرقص والركض والانتظار، الصحو والنوم والغرق والهذيان، الأغاني وقوافيها بل اللغة كاملةً ومعها جرائد الأزمنة الصعبة التي فات أوانها، الأنهر وحبال الغسيل وأعلام بألوان ثلاثة لمّا تجف بعد، والهواء والغمام والسحاب، الذات المتوجسة والظلال، الرخام والمرايا والسنابل والخيام والنجوم، وهذا النص الذي يرادُ له أن يبدو موسيقياً ـ كقصائدك عندما تُلقى ـ ولا يفلح، كل هذا يودِّعك.

تشكرك الأشياء كلها لأنك وضَّبتها في قصيدة. المدينة بأسرها ترثيك. نجمتك التي تتغير باستمرار، وتتقلب مزاجاتها، تبكيك. ونجمتك حزينة اليوم، لكنها لن تتوقف عن الاحتفاء بك. الشعب المشرد يتوجك نبياً لتاريخه المعمّد بالدم، وعاشقان حضراك شاعراً في السبعينيات وتزوجا لينجبا ويصير أولادهما اليوم عشرينيين يبكونك، وليكتب أحدهم مرثية بدائية اللغة لك.

درويش، تغيب في زمن رخو. بات عليك الآن أن تعتذِر على فعلتك هذه!

نُشِرَ في شباب السفير في 13 آب 2008