لـن أشتـريَ سمكـة

نُشر في August 6, 2008

Share Button

أنا بائس. خبر قديم، أعرف. لكن لا ضَيْرَ من الإعادة. لا تحاسبوني على إعادة تصريح شخصي وحميم، وأنتم تستمعون للتصريحات ذاتها منذ ثلاثة أعوام.
لم تعد السموات تكفي المركبات الفضائية التي اخترعتُها في خيالي صغيراً، وسيَّرْتُها فوقي. قيل لي يوماً إنَّ مركبة اصطدمت بأخرى فوق، وإنَّ  “إي تي” رفع عليَّ  دعوى قضائية لتحطيم إحدى مركباتي بيته. قال إنه لم يقضِ  أكثر من ربع قرن في مخيَّلة الصغار وهو يردِّد جملته الشهيرة: “هوم… هوم”، حتى يأتي شاب أخرق مثلي بمركبته المُتَخيَّلة ليحطِّمَ  ما تبقى من بيته الذي يحتاج أصلاً إلى إصلاحات. وعليه، طالب بليرة لبنانية واحدة عطلاً وضرراً.
هه، يا للهزء. هه، يا للعبث.

***

في فيلم “شون بين”، الذي أشاهده على الشاشة الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، شاب ترك وراءه كل شيء. نجح في دراسته الجامعية وعزم بعدها على الانطلاق بعيداً عن البشر. عزم على الاقتراب أكثر من الطبيعة. جسّد مضمون ما كتبه “روبرت فاوست” يوماً:
“كان هناك طريقان يفترقان نحو غابة، وكان عليَّ أن أختار. ولأنني كنتُ  مسافراً وحيداً، فلقد توقفتُ  طويلاً، وأطلْتُ  النظر في أحد الطريقين. ثم قررتُ  أن أسلك الطريق الآخر، لأنه كان أكثر اخضراراً، ولا يبدو أنَّ آخرين قد سلكوه قبلي.
قلت: سأحتفظ بالطريق الثاني الذي لم أَخْترْه ليوم آخر.
لكني، ولأني أعرف كيف تأخذنا الطرق بعيداً بعيداً، فإنني أشك في أنني سأعود يوماً لأسلك الطريق الآخر.
فقط، بعد زمن بعيد، سأتنهد عميقاً  وأقول:
طريقان افْترقَا إلى الغَابَة؛ ولَقد اختْرتُ  مِنْهما طريقاً لم يسْلكْها قَبْلي إلاَّ قلّة؛ وقد حَسَم ذلك الاختيارُ الأمْرَ كله”.

***

أنا بائس. وقفْتُ  في محل الحيوانات، وفكرتُ: رحل أحدهم. اخترتُ طريقاً جديداً، وأحتاج إذاً إلى حيوان أليف ليعينني على تخطي الأيام المقبلة.
نظرْتُ إلى العصافير فأصمّ  سمعي صراخ أصواتها. انتقلْتُ إلى القطة، فلحظتُ خبثاً في عينيها، وكادت أن تهبش جلدَ يدي بأظافرها. تراجعْتُ إلى السلحفاة، فأعطتني ظهرها، وكانت بطيئة وساكنة كجثة ميتة. مرَرْتُ  بيدي على الكلب، فقام بحركات وفيّة حدّ الانبطاح، جعلَتْني أتقزز. شخصْتُ  بعينيّ  ناحية أسماك الأكواريوم.
لا يا ريتشارد، يا صديقي الإنكليزي الأشقر. السمكُ لا يُدَجَّن. أتذكّر الآن الخرافة التي أقنعْتَني بها وكتبتُ عنه يوماً. أضحك اليوم وأؤكد لك: السمكُ لا يتذكَّر صاحبه. “السمكُ بلا ذاكرة”. هكذا، حسب ما قرأت، ستصرخ إحدى شخصيات فيلم يسري نصر الله الجديد الذي أنتظره. سمكتُك لا تتذكّر إصبعك يا ريتشارد، وأنا لا أحتاج حيواناً صامتاً ليزيد من رهبة الصمت حولي. لا أحتاج نقصاً إضافياً في ذاكرتي. وعليه، أصرّح: “لن أشتريَ سمكة!”.

نُشِرَ في شباب السفير في 6 آب 2008