“وأتباهى بمجدك يا وطَنْطَنْ”

نُشر في May 5, 2008

Share Button

التلفاز ضاق ذرعاً بهدوءٍ انتقالي بين عنفيْن، لكنه لم يعلن بعد عن سأمه. أحدنا الآن يفتح باب شقته ولا يلقي نظرة على تلفازه، وتلفازه يتأفف.
تنقطع عنه كهرباء الدولة للحظة. يشعر بالأكشن. يظنّ أن شيئاً ما سيحصل. لكنَّ أمله لا يلبث أن يخيب، ويدور المولد. إنها الحياة البديلة وقد حلَّتْ على الصندوق المحشو بالرقائق الالكترونية.
يطالب الصندوق: ماس كهربائي يا جماعة. دارة مقفلة تحرق رقائقي. أتوحَّم على دخان يتصاعد مني يملك رائحة شبيهة برائحة البوشار المحروق. أرغب بصاعقة تمتد من شريط الستالايت لتحرق بدني وتحيله أسود. شيء ما! إثارة ما يا جماعة. أطالب بالإثارة! .
التلفاز يصرخ، يستجدي، لكنه ما يلبث أن يستبشر خيراً. المذيعة صاحبة الحاجبَيْن المتراقصيْن لؤماً وفرحاً وتأكيداً ومِهَنيَّة تاريخية ظهرت على شاشته. إنها تذيع خبراً عاجلاً، وستتبعه بتحليل سياسي إنشائي وتشدد على ملكتها في التحكم المطلق بحاجبيها.
بالتوازي، أحدهم سيموت الآن على الهواء. أحدهم سيُقتَلْ. أحدهم سيَضرِب ويُضرب. أحدهم سيطالب بمستشفى آخر. دماؤه غير الدماء، وتستحق مستشفىً آخر في منطقة أخرى تنتهي ب نا الجماعة، خاصته.
إنها البشاعة تزحف بإصرار مقيت، لكنها لا تلبث أن تتوقف وقتياً بفعل زر مكبوس من آلة تحكم عن بعد. هو أحدنا، أطفأ التلفاز من مكانه. إنه خلود كونديرا القاتل، وقد تحطَّم. أحدنا يعرف وهو يفكّر بهذه الخاطرة أنه لا يستطيع تجاوز تفاصيل الكاتب التشيكي، وهو يعرف أكثر أنه بدأ يكرر استشهاداته بأقوال زميله (!!) التشيكي، وباتت نصوصه مملة للقراء.
لقد أطفأ التلفاز ولم يعر الموت أي أهمية. بالنسبة إليه، ميت واحد لا يفرق عن مئة، سجين رأي واحد لا يفرق عن ألف، زوجة مقرَّعة واحدة لا تختلف عن مجتمع نسائي محجَّب يربي مجتمعاً قادماً بالعصا، اغتيال واحد لا يختلف عن 10 اغتيالات، 1000 كيلوغرام من ال تي أن تي لا تختلف عن 10 كيلوغرامات ولا ترقّي شهيداً ميتاً أو حياً على حساب آخر.
أحدنا نفَّذ تهديده. انغمس في اللامبالاة حتى بلغ الحضيض ولم يُتعبه ضميره. ابتلع حبتي مسكن مكتئب على المدى البعيد، وأدار أغنيةً راقصة، وترك كتاب الهويات القاتلة يشع على رفِّ مكتبه القريب.
أحدنا لا يهتم البتة. لعناته على الصندوق ذي الشاشة وكل ما يتقيأه من أخبار اختفَتْ وصارت لاهتمام غريب. لقد دخل حالةً من الخدر اللذيذ، بات كل شيء يمر قربه من دون أن يلمسه: الرصاص، الجنازات، الاسوداد، الأعلام، الخطابات، الشتائم، البيانات. كل شيء!
أطفأ كل هذا الصخب الكلامي والمأساة المواطنية. مواطنية . فكَّر بهذه العبارة وابتسم. كررها. مواطنية، مواطنية! ، رأى ابتسامته بلا مرآة. شعر بها، لأنها غير مألوفة. الاستثناء يُحَسّ بلا تأكيدات اللمس والرؤية.
أحدنا يكره الأناشيد، أو الوطنية المعلبة، بل الوطنية بالمطلق. بات متأكداً فعلاً أنَّ النظام هو كل ما يبرر العنف مطلق عنف تجاه الآخرين. كذلك الفوضى، من أي فصيلة كان.
هو الطوباوي المتهم بالسذاجة السياسية لأنه سئم الفسطاطيْن.
هو المتهم بالمثاليّة، الضائع الذي لا يعرف ما يريد. هو أحدنا، الذي لا يعرف إلا أن يسخر. لا يستطيع إلا أن يقلب السيناريو، ويجعل حمّص وحلاوة يغنِّيان النشيد الأوبرالي المضاد: أنا وطني، وطني، وبَطَنْطَنْ، واتباهى بمجدك يا وطَنْطَنْ .
هو الآن، يتدثَّر بلحافه، يضع طرف الغطاء بين إصبعي قدمه في عادة لم يتخلَّ عنها منذ صغره، ويفكَّر بنص سيكتبه غداً ويهديه إلى فرح.
وقد فكر بذلك كله، وفعل ذلك كله، قبل أن يغمض عينيه.
أحدنا سينام الآن، ولن يحلم.

نُشِرَ في شباب السفير في 5 أيار 2008


2008 03 05

Comments