ريـم والحيتـان الطائـرة
نُشر في December 23, 2009
(إلى ناجي)
السمكة
كان يملك عينين كئيبتين، بقزحيتين رماديتين. رغم ذلك، جسمه بدا أحمر اللون، مبللاً. لمّا رمى نفسه ذات لحظة من أعماق البحر إلى رمل الشاطئ، أخاف كثيرين. أصدر صوتاً رهيباً عظيماً كحجم جسده المرتطم بالرمل. صوت يشبه الصرخة الأخيرة في الأفلام.
أنا كنت أتجول مع ريم على الرصيف، لحظةَ وصلنا بعضاً من رذاذ البحر المقذوف ناحيتنا بفعل تلك القفزة. أذكر تحديداً أن سمكة طائرة وقعت قربنا من الأعلى، وأخذت تتحرك بسرعة باحثةً عن ماء على الإسفلت لم تجده، ثم ضمرت وتوقفت عن الحركة.
نظرَت ريم إليها وقالت: «بابا. سمكة». حملتها، ومشيت مغادراً إلى الشقة القريبة. وأنا أمشي، كانت هي منهمكة بتزرير ياقة قميصي وإعادة فتحها.
أبي، الثورة، والحليب
عندما نظر أبي في آخر أيامه إلى ريم، بوّل في ثيابه. قال إنها حلوة كثيراً، بعكس «خلقتي». أضاف أن لله في خلقه شؤونا، أما أنا فلم أملك إلا أن أبتسم وقتَها.
عاهدْتُ نفسي على الابتسام دوماً، حتى وأنا أخطط للثورة. يستغرب رفاقي ابتسامتي. الثورة عندهم تأتي مع عقد الحاجبين والصراخ. كنت أجيبهم دوماً: «أنتم لا تعرفون العيش، ولا تفقهون اللعب».
كنتُ أضطر إلى اصطحاب ريم معي إلى الاجتماعات. تجشّأت مرة حليباً على بيان من بيانات الثورة. شتمني أكثر من رفيق، واضطررنا وقتها إلى إعادة كتابة البيان مرة أخرى على الآلة الكاتبة.
لكني كنتُ أعلم في سري مسبقاً أن الثورة ستفشل. فكّرت أنَّ ثورةً تُكتَب بياناتها بخط اليد ولا تطبع على الكمبيوتر، لا بدَّ أن تفشل.
أمام الحوت
تذكَّرْتُ ذلك كله ونحن واقفان أمامه. مسَّدَت ريم فوق عينيه. فتحهما للحظة، ونظر إليها. أصدر صوتاً شبيهاً بهديل اليمام، ثم أعاد إغلاقهما للأبد، وقام الأمن المركزي بإبعادنا كالعادة، وبعدها.. استيقظت.
ريم والحيتان الطائرة
تعلمت ريم الكلام. قالت لي بطلاقة: «بابا، أنا أشم رائحة الحوت الأحمر!» حملتُها ـ وكانت قد أصبحت أكثر ثقلاً ـ وخرجنا سوياً إلى الشرفة.
كان يوماً شتائياً ماطراً. أمام ناظرينا فجأة، تزحلقت سيارة في الشارع لترتطم بأخرى. لفّت السيارة الثانية دورتين أو ثلاثا ثم ارتطمت من جديد بعمود الكهرباء. تلى ذلك قفزة أخرى لحوتٌ آخر إلى الشاطئ القريب.
صرخت ريم بحماسة: «بابا؟ رأيت الحوت الأحمر؟» لم أجب، حملتُها من جديد إلى الداخل، عنوةً، وأغلقت الباب.
في الغرفة، سمعنا صوت سيارات الإسعاف. حاولت أن أخفي عنها الأصوات، فأدرتُ لها التلفاز وشاهدنا بعض الرسوم المتحركة.
نامت في حضني، وأنا أقرأ كتاباً لفرناندو بيسوا. عندما مللت من القراءة، نظرتُ إلى الجدار الأبيض أمامي، فرأيتُ الحوت الأحمر عليه. كان يطير. لم أكتفِ برؤيته. شممتُ رائحته أيضاً.
تبرّزت ريم في حفاضاتها بحجري. كنت أسمع أصواتاً مهولة في الخارج، متبوعة بصفارات الإنذار، وزمامير سيارات الأمن المسرعة.
خلعتُ نظاراتي، ووضعتها جانباً. وددت أن أقول لها: الحيتان تتقافز إلى الشطآن يا ريم! إصحي!»، لكنني تصرفتُ كأبٍ يهتم، ولم أوقظها، بل اكتفيت بالنظر.
نًشِرَ في شباب السفير في 23 كانون الأول 2009