شرايين زرقاء على صدغ نادلة

نُشر في November 25, 2009

Share Button

«مقهى جميل، ينقصه فقط نادلة جميلة!»، بدأ.

Serendipity

لا يمكن وصف اللحظات التي تحظى فيها بسعادة فائقة غير مفهومة. فيها، تشعر أنَّك مُصطفى لأداء مهمة عجائبية الهدف. وفيها، تخاف أن تفقد ذاك الشعور الذي لا تفهمه. تتوجس، لكنّكَ لا تلبث تورّط نفسك في اللعبة، بل تعشقها. وعندها ـ عندها فقط ـ يتملكك الخوف من فقدان هذا اللا فهم الجميل.

الأغرب، أنّ حواسك كلها تركِّز بقدرة قادر على خدمة ذلك الهدف غير المفهوم. كأنها تستدعي «الصدف». أضعها بين مزدوجين، ولا أجد الآن ترجمة ملائمة لكلمة «serendipity». هل هناك «صدف» فعلاً؟

الخزق

انحنت. جمعَتْ فتات بسكويت بخرقة طُبِعَ عليها ختم المحل. ابتسمت لي ثم أنهَتْ حديثاً بدأتُه بلباقة تُحْسَد عليها. بلباقة، لم تجعل ابتسامتي تتبخَّر. كيف تصدّ أحداً وتجبره على الاحتفاظ بابتسامته؟ تلك موهبة.

هل تنظر إليها؟ إنها لا تني تتحرَّك بين الطاولات؟ تبتسم رغم كل هذا الضغط في الهواء حولها. أتراها؟ إنها مـصابة بالميغرين! كيف عرفْتُ؟ لم أعـرف. لكني أجزم أني مــحقّ! عندما انحنَتْ لتقدَّم لي كوب الكابوتشينو، لم ألمح إلاّ هذه الشرايين الزرقاء الرقيقة الطافية على سطح صدغها الأيمن. ولحظتها عرفْتُ، بل جزمْتُ، أنها مصابة بالميغرين. أملك دائماً مثل هذه الحقائق المطلَقة: شرايين زرقاء على صدغ، إذاً: ميغرين!

الشــرايين! إنــها الـخزق في الجمال الكامل. الـخزق الذي يبرز جمـالاً غير معهود. كما الشـامات أو النمش الأحمر أو الشفتان الباهتتان، أو، أو، أو…

الكل والبعض

قبَّلها وهو يتذكَّر ليالي التوت البري الأزرق. قبَّلها والتهم ما تبقى من الفطيرة على شفتيْها. استعاد كل لحظات الصمتْ السعيد والتأمل والاستماع والتعقيب والحوارات.

فعل ذلك في الفيلم، أما في الحقيقة فنستغرق الكثير من الوقت لنصل إلى مشهد كهذا، والأرجح أننا لا نصل. انشغالاتنا تعيقنا. ربما نحتاج بعضاً من الهدوء. بعضه، لا كله. «الكلّ» يسطو، ينقلنا إلى ضفة أخرى. نحتاج إلى «بعضٍ» منه لا يحيلنا جليداًَ.

«فسّيدو»

«أحسد الجواسيس!»، قال. في المشهد المجترّ، يجلس «فسّيدو» في كافيتريا الجامعة مع جريدة وكوب قهوة. في الأساطير، يلبس «فسّيدو» معطفاً في عز الصيف ونظارة سوداء ليراقب من ورائها. يرى الكثير، وإن كانت نظاراته تلوِّن ما يراه باللون الأسود. مع «فسّيدو»، هناك دائماً متسع من الوقت لرفع النظارة والتفرس بالتفاصيل.

استفاض وربَّت على كتفي كحكيم ستّيني غزت التجاعيد وجهه، ثم أطلق بعدها نصيحته المعهودة وهو يتمايل مزهوّاً:

«pause & notice يا عزيزي! Pause and notice!!».

شيء ما

«لديَّ شيء ما تجاه النادلات»، تحمّسْتُ وبدأتُ أشرح له، وازدادَتْ ابتسامتي إشعاعاً. «ليس انحرافاً»، شرحْتُ. أقرب إلى شيء طوباوي. أستمتع برؤيتهنَّ «ينغلْنَ» حولي. لا. ليسَتْ ساديّة. أنا حتى لا أجعلهنَّ يقمْنَ بالعمل المطلوب منهنَّ. أطلب القهوة. أنتظرها، وآخذ الكوب بيدي. لا أنتظرهنَّ أن يأتينَ به إلى طاولتي. أحرص أن تختفي تلك العلاقة غير المتكافئة نهائياً. وإن أصرَّتْ إحداهنَّ على عودتي إلى مقعدي أنتظر، ألتزم على مضض وأصرّ بدوري لما تأتيني بطلبي على معاجلتها بأخذ الأغراض منها.

وأكتفي بالمراقبة، تماماً كـ«فسّيدو».

قصيدة عمودية

سكرتُ البارحة. ثملْتُ حدّ الانطفاء. ولمّا ثملْتُ، ألقيْتُ على رفاقي قصيدةً جاهلية! تخيّل! سكران يلقي قصيدة عموديّة! ما يغيظني أني لا أتذكّرها الآن. لا أفهم كيف استدعى السُّكر ذاكرتي الاحتياطية! لولا أنّ رفاقي أعلموني بفعلتي هذه، ما كنتُ لأعرف. قلتُ: «بسيطة. أسألهم عن القصيدة»، وفعلْتُ. لكنهم ليسوا هواة شعر. أجابوا أن القصيدة احتوت شيئاً من الفخر والأنفَة والغرام الملتاع. هممم. فخر وغرام. تلك معلومات ساعدتني فعلاً في معرفة اسم القصيدة!

قالوا إني ألقيت القصيدة ونمت على الكنبة.

أنا أعرف ما حدث بعدها. وجدتُني في صبيحة يوم غريب، مستلقياً قرب ستارة غريبة النوم، مع صداع قاتل. فكرْتُ أن أذهب للمقهى طلباً لكوب قهوة سوداء تقليدي.

هل فهمْتَ الآن ما حدث معي؟ أفتش منذ الصباح عن قصيدة مركونة في احتياطي الدماغي ولا أفلح، وبدلاً من ذلك أعثر على ميغرين وشرايين وابتسامات وفتات بسكويت، ونورا جونز تغني أنها تغرق سويا مع حبيبها في وعاء من العسل وكوب من القهوة!

الفراشة والفوضى

ضعتَ؟ فلنعد قليلاً إلى ما حدث:

فيروز الهادئة في الخلفية، أو إيديث بياف أو حتى داليدا، الديكور القريب إلى الألوان الترابية، والطاولة غير المريحة على الإطلاق (لكن لا يهمّ)، والثريّا القديمة، والإبريق المزخرف (ينظر إليَّ الآن بفوهته)، والأضواء الصفراء المشعّة لكن غير المباشرة. كل ذلك تواطأ على إصعادي إلى سطح شعرة الأرنب. قبل، كنتُ في داخل فروة الأرنب. مشغولاً بالحديث معك عن القصيدة المجهولة. وبعدها وجدتُني فجأة على سطح شعرة أرنب جوستاين جاردر، من دون أن أتمسّك بشيء، كنتُ أطفو فوق. هل كنتُ أكيداً أنني أشهد ما يلي أو يسبق تأثير الفراشة؟ أهو تأثير الفراشة أم تأثير الفوضى؟ تباً لإدوارد لورينتز! كيف أتى بنظريته هذه؟ هل كنتُ واثقاً أن ما يحصل الآن يؤسس لشيءٍ تال سيطول من غير أن أبذل جهداً لأجعله يستمر؟ أنه سيلد ويطور ويحدِّث نفسه بنفسه؟

شرايين زرقاء

فلنختصر. بدءاً من اليوم، سأحظى بأسبوع قادم سعيد. لديّ بعضٌ من وجه نادلة جميل ليشاركني جلساتي في مقاهي الرصيف المختلفة التي سأرتادها. بعد سبعة أيام، سأعود فأدخل المقهى. أنتهز فرصة أخرى لأكلّمها أكثر. سنضحك، وأدعوها إلى فنجان قهوة في غير المقهى الذي تعمل فيه. سترفض دعوة القهوة، وتقول إنها لا تستطيع احتمال رائحتها، وأنها تغتسل ليلياً لطرد رائحتها المقيتة الملتصقة بجسدها.

لكنه ليس رفضاً كاملاً.

سنتفق على فعل لا شيء. لا شيء على الإطلاق. فقط، نمضغ الوقت ونقتله: نجد شارعاً بيروتياً هادئاً (رغم صعوبة خيارنا هذا)، ونمشي ببطء وبسرعة (بحسب مزاجينا)، ونضحك بجنون (من دون أن نجنّ).

ستقف هي لألتقط لها صورة بالكاميرا الرقمية. سأستغرق بعض الوقت لألتقطها، فتتأفف. ولمّا ألتقطها ستهرع عائدة لترى الصورة على شاشة الكاميرا. عندها لن تجدَ إلا شرايين زرقاء على صدغٍ أيمن، لا ابتسامة ولا وجها، فتنظر إليَّ مستغربة وتنتظر مني شرحاً، لن تحصل عليه مطلقاً.

نُشِرَ في شباب السفير في 25 تشرين الثاني 2009


2009 11 25