لا تظلمـوا الخنازيـر

نُشر في May 6, 2009

Share Button

“إنه ينتشر”، أعلنت المذيعة. رُفِعَتْ  ركوة القهوة عن المنضدة، وانساب السائل الأسود رقراقاً داخل الفنجان.
الأم التي تشرب القهوة في فنجانها الأزرق المفضّل أبصرت في نومها مطراً أسود غزير السقوط. استيقظت، وأضاءت التلفاز ففوجئت بالتقارير التلفزيونية تعلن ازدياد حالات الوفاة. في اليوم الأول بثت التلفزيونات صوراً لناس بكمامات زرقاء في مترو وقطارات أوروبا. وشت الصورة بحجم الهلع. لاحقاً في نهارٍ تالٍ، واكبت فصائل من الشرطة مجموعات من الأطباء البيطريين إلى مزارع في أنحاء البلاد. دخلوا بكماماتهم الزرقاء، أطلقوا غازاً قاتلاً، وخرجوا.
هرب عمال المزارع. من وصل منهم إلى بيته سالماً نقل أخباراً لا تصدَّق عن المشهد. تحدثوا عن أجسادٍ سقطت في لحظة، عن أطنان من الخنازير النافقة المتكوّمة في الداخل، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. هربوا وتركوا وراءهم في محيط المزارع مجنوناً وحيداً يتمتم ثم يصرخ: “ليست الخنازير وحدها. لا تظلموا الخنازير”.
عالم بأسره صار يجلس أمام شاشة بقنوات معدودة. حتى قنوات التلفزيون فرغت من موظفيها. أكثرهم فضلوا ترك أعمالهم والانتقال لقضاء أوقات ـ قد تكون أخيرة ـ مع عائلاتهم.
لم يعد أحد يخرج إلى الأسطح ليكش حمام سماء المدينة. صار الناس يلزمون بيوتهم ويمتنعون عن الاختلاط. الكل يتابع قليل عمله قدر المستطاع من بيته، عبر الهواتف والانترنت.
لن يمر الكثير من الوقت قبل أن تنهار اقتصادات دول. ستزداد المشاكل في البيوت الموصدة. الوجوه نفسها كل يوم. الغسيل الرطب سيُنشَر على حبال داخل الغرف الموصدة، ويستغرق الكثير من الوقت ليجف. لن يجرؤ أحد على الخروج إلى الشرفات. يفتحون نافذة واحدة نصف ساعة في اليوم، ليجددوا الهواء التعب داخل البيوت. يغلقون النافذة المفتوحة بأسمك غطاء قابل لأن يمرّر الهواء ويأملون أن لا يدخل الموت من النافذة في نصف الساعة هذه. يمر اليوم، فينتظرون يومهم التالي. صاروا يكبرون بالأيام لا بالأعوام. يسألون: إلى متى نصمد قبل الانهيار الكبير؟ متى ستتوقف الكهرباء والهاتف أو ينضب طعامنا وشرابنا المخزَّن؟ متى تحل العتمة المطلقة؟
“هذه أيام سوداء”، فكرت الأم. هذا عمىً أسود لا أبيض كما في الرواية التي أخبرها عنها ابنها البكر. قال لها: “في الرواية البرتغالية احتفظ الناس بأجسادهم وهاموا عمياناً يتلمسون بعضهم. الرؤية كانت بيضاء كالحليب”. ما يحدث اليوم مختلف عن الرواية. اليوم، تصاب، تعدي غيرك وتموت. قطع “دومينو”. تموت أو تبقى.
الليلة تذهب الأم للنوم، وتبصر في نومها كابوساً جديداً: مطراً أسود أو أحمر؟ غير مهم. هذه إشارة مكررة ستجعلها تعود غداً بتدابير احترازية. ستتشدد في منع أولادها من الخروج من المنزل. ستجلسهم على الكنبة: ثلاثة صغار باتوا رجالاً في لحظة، وتعلن: “نحن نواجه عدواً لا نراه، ولا نستطيع أن نلمسه. هذه حربٌ لا نربحها إلا بالهروب”. سيردّ أصغر رجالها على خطبتها بأنه يحبها كثيراً، وأن ما يحصل يذكره بأفلام الكوارث الأميركية التي كان يعشق مشاهدتها، وبات يمقتها الآن.
ستبتسم الأم وهي تنظر إلى رؤوس أطفالها المتجاورة تؤلف خطاً قطرياً تحت نسخة لوحة “غيرنيكا” المعلقة على الحائط وراءهم. الآن، يعلن الخبر العاجل على أحد المواقع الالكترونية أن الإصابات تتفشى وأن خمسين ناشطاً من حملة “فلنعش سوياً جنباً إلى جنب، أيها الفيروس” ماتوا في ساحة المدينة في ثوانٍ معدودة. كانوا يلبسون الأبيض. “يا لغبائهم. لقد بدأت الحرب”، فكرت الأم. “لن يتعرف أولادي على فتيات جميلات غريبات. لن يعرفوا أبداً الحب”.
هذه حرب لا تشبه الحروب السابقة. يقول الكليشيه إن الحروب تُهزَم بالحب. حرب اليوم بطلها نَفَس، بطلتها قبلة! القبلة عميلة مزدوجة.
“البسوا دائماً الكمامات الزرقاء. الحب أمر خطر. حاذروا القبل”. هكذا أكد وزير الصحة. أضاف بجدية: “إذا أردتم أن تحبوا، فحبوا فقط أنفسكم”. في بادئ الأمر تهكم الناس على الوزير، وشاعت نكات منمطة بذيئة، ثم ما لبث الجميع أن فطن لما يحصل حولهم. لقد انقلبت القوانين، وباتت الفردية بطلة المرحلة المطلقة. الناس يطبقون النصائح التي تُرسَل عبر ما تبقى من الإذاعات العاملة بدقة مذهلة: “لا تكونوا جماعات. لا تزوروا جيرانكم. تجمعكم يقضي عليكم في لحظة. لا تخرجوا من غرفكم”.
يحمل الهواء الفيروس إلى أماكن متفرقة، وتزداد عزلة الأفراد. كثرٌ شرعوا بكتابة روايات على الانترنت. خرج أحدهم بنظرية أن الفيروس ينتقي الموتى. أن كل من مات كان يجب أن يموت، وأن من بقي حياً تخطاه الفيروس لأنه يريده حياً لسبب ما. رجل الدين فرح بالفكرة. أعلن عبر مكبر المعبد أن ما يحدث ابتلاء لمن ضل الصواب. قال ذلك، وذهب ليصلي، فتملك منه المرض قبل أن يتم صلاته.
ستسري إشاعة عن اكتشاف ترياق ما في أدغال إفريقيا، ثم تنفى بعد ذلك. وسيتكرر الأمر. كل يوم ستخرج الإذاعات المشوّشة بأخبار من هذا النوع، لا تلبث أن يتضح كذبها.
“يا لسخافة ما يحصل خارج الغرف الموصدة”، فكَّرت الأم وهي تحضن صبيانها الثلاثة حليقي الشعر.
هو يوم قيامة سابق لأوانه. حرب ساكنة. إبادة مليارية بدأت.. بزكام.

نُشِرَ في شباب السفير في 6 أيار 2009

2009 05 06