البارحة

نُشر في April 15, 2009

Share Button

فجأة، ظهر خيال فوقي. لم أعد حتى نصف الرجل الذي اعتدْتُ أن أكونه. هو البارحة. لقد حلّ فجأة.

(من أغنية للبيتلز)

ـ صندوق باندورا
بيوت التنك تزنِّر المدينة. قاطنوها يأتون من بعيد. المطر يقرع السطوح، والرجل يجلس حول الطبلية الخشبية مع امرأته وأولاده. يأكلون ما تيسّر لهم من طعام. يعدّ الرجل قروشه القليلة، ما تبقى لديه بعد دفع ثمن وجبة المساء.
السياح والصحفيون الأجانب يملأون الفنادق، في الغرف والأروقة والترّاسات. المقاتلون في الشوارع، ثمّ بوم. بدأت الحرب. ارتدى رجل بيت التنك بّزة داكنة. سينتسب إلى حزب أو حركة، لا يعرف عنهما شيئاً، ويقتل رجلاً كل يومين. هذا سيكون معدله طيلة الأعوام القادمة. سيقاتل مع الأغنياء وضدهم. لا فرق. نهر بيروت يثمل من الدم. الجثث ودم المعارك ومطر الشتاء تكفل فيضاناً آتياً منه إلى شوارعه المحيطة به. لرصاص لا يتوقف، من البحر، من البر، من السماء.
المقاتلون يحتكرون الأرصفة ومداخل البنايات. أكثرهم مغطى الوجوه. هذا في البداية. في ما بعد سيكشفون عن وجوههم. إغفال الهوية في خضم الدم لا يعود ذا أهمية. المعارك تبدأ ولا تنتهي. من يتذكر آلاف وجوه المقاتلين؟ ضحاياهم هل يتذكرون وجوههم، حيث هم الآن؟ أين ذهبت صور وكالات الأنباء؟ أين صار هذا الذي يظهر في الصورة ملوِّحاً بسكينه في وجه الدبابة؟ تبدأ الحرب بباص، بمجزرة، برجل يقف على سطح بنايته مطلقاً رصاص رشاشه في الهواء مع صرخة مدوية، أم بغير ذلك؟ البداية للتأريخ. نحتاج تاريخاً ما لنبدأ منه الكتابة. نقول: في تاريخ كذا، بدأت الحرب. وقبل؟ ألم يكونوا يكرهون بعضهم؟ وبعد توقف الحرب، هل توقفوا عن كره بعضهم؟
التلفاز صندوق مشع نسوا إغلاقه. أضِئه، تـُخرِج منه غرباناً ووطاويط. صندوق باندورا فُتِح. كل الشرور خرجت. وحده الأمل ظل قابعاً داخل الصندوق. الحرب سائرة على الشاشة والناس والقطط اختفوا من الشوارع. ما اسم المعركة التي تعرض الآن على الشاشة؟ أي حرب هذه؟
الحرب تكمل وتنك البيوت يصمد ولا يتحول إلى حجارة.

ـ الأصبع المقطوع
يفكر كيف نجا من المجزرة. يفكر بالبرميل التنكي الذي اختبأ فيه ذات يوم. وقتها، رفع الغطاء قليلاً وشاهد الأشلاء تصبح ـ فعلاً ـ أشلاء. تابع رحلة الخَلق. دم، دم، دم. المجزرة مستمرة. وصوت الدعسات لا يتوقف في رأسه. صوت متضخم سيشبِّهه بدبيب النمل لو قدِّر له أن يتعرّف على ذاك الصوت. يفكر وهو في البرميل كم تتسع قلوب هؤلاء للنفايات. تساءل كيف تتحمل قلوبهم كل تلك الرائحة المثيرة للغثيان.
نجــا من المــجزرة تلك. علق بعدها عند حاجز مسلّح على الطــريق الساحــلي. نفايــات قلوبهم كـانت أقل. يملكون شيئاً من رحمة. قطعوا له أصــبعاً واحداً فقــط. اليوم، كلــما نظر إلى كفه الأيمن تذكر الحرب. كلما حمل ملعقة، شوكة، سكيناً، تجسّد الحاجز أمامه. حمّلوه الحرب ومضوا. هو بالذات، لن ينسى وجوههم.

ـ أجنحة الدجاج المتبّلة
2009. أمير الحرب يتنقل. يجول في سيارة مرسيدس سوداء زجاجها داكن. جالس على فراش المقعد الخلفي الجلدي، يتكلم من خلويه مع أمير حرب آخر، ويفكر كم يشتهي الآن أجنحة الدجاج المتبَّلة. قام صباح وأوقفوا الحرب. نظر إلى مرآة الحمّام. نظف أسنانه. فتح فاه. نظر إلى أسنانه، ثم نظفها مرة أخرى. بصق الماء الممتزج بمعجون الأسنان في المغسلة وذهب إلى مؤتمره الصحافي ليعلن التزامه بالسلم، فحصل على وزارة مكافأة على قراره الجريء هذا.
لو صعدنا برؤيتنا إلى فوق. لرأينا رجال الأمن بسياراتهم الفورد السوداء يوقفون أرتال السيارات من المتحف حتى مستديرة العدلية. من جسر الرينغ حتى التباريس، وغيـره وغيرها، تقاطعات بأكملها تغلق. للاحظنا أن سيارة الأمير تذرع شوارع، كانت خطوط تماس بين شرق وغرب. سيارات المواطنين تقف عند عتبات هذه الخطوط. عالقين في سياراتهم، يشتـمون أمير الحرب، أو ابنه أو أخاه، أو أو.. ثم ينتخبونهم بعد شهــرين. شــوارع بيروت تزفَّت، الموسم الانتخابي بدأ، والموتى ما زالوا قابعين في مقابرهم الجماعية. البارحة، اليوم، غداً. لا فرق. هذا البلد والموت صنوان.

نٌشِرَ في شباب السفير في 4 نيسان 2009

2009 04 15